إن المنحى التطوري الذي أخذته شخصية أرطغرل كان إشارة واضحة لمركزيتها، إذ إن البداية انطلقت مع محارب يبدي شجاعة وجسارة، وبدأت تتطور لتكشف عن شخصية رجل مفاوض حكيم، ثم رجل سياسة يجيد إدارة المعارك، وفي الأخير رجل دولة شرس يدير أكبر الأسواق التجارية ويكسب أكبر المعارك السياسية والعسكرية.
لم يكن أرطغرل شخصية عبثية وقع عليها الاختيار لتكون لب الأحداث ومركز ثقلها. كان رجل الدولة المحنّك الذي يفكر بعقل سياسي استراتيجي ويتجاوز المآزق بحكمة وشجاعة، كان صراعه صراع حق وباطل، صراع ظلم وعدالة، كان هذا هو منهجه.
ومن العوامل القوية التي جعلت أرطغرل ينجح في تبليغ رسالته هي تبيّن معالم الصراع القائم، لم يرد أن يكون صراعه من أجل مشروع غامض المعالم بشعارات رفعها من سبقوه دون أن يجدوا السبيل لتحقيقها، بل كان يؤمن أن تحديد معالم الطريق هو السبيل الوحيد لخدمة مشروعه وتبليغ رسالته.
كانت ثنائية الظلم والعدالة محور الصراع ومركزه، فالانتصار كان للحق والمظلومين والعداء للباطل والظالمين، وهذا الخيط الناظم الذي استطاع به أرطغرل جمع الناس من حوله وتوسيع قاعدة المنتمين إليه حتى تمكن من ضم كل قبيلته التي عارضته في كثير من المحطات وذاع بذلك صيته بين كل القبائل.
في الحقيقة، لم يدرس أرطغرل علوماً سياسية ولكن ملكة الاستشراف كانت نبوغاً منه؛ حيث إن المتابع لديناميكية سير الأحداث يمكنه استجلاء قدرة الرجل على ترجيح الأمور نحو الصواب حتى في ساحات القتال.
إن دارس الوضع في تلك الفترة، من الضروري أنه قد استبين عن الفتن المنتشرة والخراب الذي ينهل كيان الدولة السلجوقية إضافة إلى اضطهاد الكنيسة وتجبر فرسان الهيكل والصليبيين وبناء على هذا، فالصراع لم يكن مقتصراً على الجبهة الخارجية (الدولة البيزنطية) بل كان الصراع قائماً على الجبهة الداخلية (الأمراء ورؤساء القبائل الخونة)، وبالتالي كان التصدي "للثورة المضادة" ضرورة ملحّة لضمان الاستقرار الداخلي؛ ليكون العدو واحداً فتُفتحُ الحرب على جبهة واحدة إذ كان الرهان ترتيب البيت الداخلي والقضاء على العملاء والخونة لحفظ تماسك الدولة السياسي والاقتصادي.
إن الفكرة الرئيسية التي أتبينها من سيرة الرجل، فكرة الإيمان التي تفتح أبواباً نحو بناء الحضارات، أي أن الفرد مشروع والذات النقية أساسه، أن معنى الإيمان يقود لفكرة الذات التي تبحث عن الحقيقة ليس في إطلاقها ولكن حتى فيما بلغت من معرفتها.
توصلتُ باختصار إلى أن المجموعات التي انتصرت حضارياً وثقافياً في التاريخ لم تتعامل مع كتل بشرية بقدر ما تعاملت مع مكونات وذوات آمنت بملكاتها وقدرتها على التغيير. و في ذات السياق، الإسلام لا يتعامل مع قوم يؤمنون كالأنعام التي يُطبع على قلوبها بنفس الختم بل يتعامل مع كل فرد كذات مستقلة لها السبب الذي خُلقت من أجله ولها ظروفها وسياقاتها ففي مواضع يخاطب الأمم والأقوام وفي مواضع أخرى يخاطب الأفراد والذوات ليُشعرهم باستقلاليتهم ومسؤوليتهم الذاتية ضمن السياق العام الذي وُجدوا فيه "كل نفس بما كسبت رهينة".
يقول الإمام علي بن أبي طالب: "وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر" فالإنسان ينطلق من معنى الإيمان لمعنى الاستخلاف كذات مسؤولة لها إرادتها وملكاتها ليتفاعل في هذا العالم مع واقعه، إن البناء الحضاري وصناعة التاريخ يحتاج منا إرادة وهذه الإرادة لا بد لها أن تكون جماعية وهذا إشكالنا العميق، الإرادة الجماعية والقدرة على التغيير…
في الواقع الإرادة الجماعية تنبثق من إرادة فردية، تحتاج شرارة يطلقها أي واحد منا لنشق طريقنا نحو البناء والتجديد، لم ينتظر أرطغرل إلى أن يتشكل وعي عند من يحيطون به بل اعتبر أن الأمر ينطلق منه كفرد أو كذات إنسانية تطمح للعدالة والكرامة أي أن الإرادة الجماعية تخلقها السياقات التي تُبنى على التراكمات وهو ما يقودنا إلى الانطلاق في بناء الإنسان الجديد الذي يؤمن بصناعة التاريخ.
نريد حقيقة بناء إنسان جديد متيقن أن إرادة هذا العالم من إرادته بعيداً عن التمثيل السينمائي أو الدرامي للمسألة، أي لا يمكن لإنسان يأكل ويشرب ويعمل وينام أن يدرج نفسه ضمن سياق التغيير، نتحدث عن الفرد الرسالي الذي يؤمن حق الإيمان بفكرته ورسالته، نتحدث عن إرادة تصنع التاريخ ووعي يؤسس لمجتمعات واعية بدورها وتتفاعل مع واقعها بنية التغيير لا التطبيع، يقول الله تعالى: "إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.