شرائط بلاغة التكرار اللفظي

لنا أن نتساءل: متى يسوغ التكرارُ ويُقْبَلُ، ويُعَدُّ من مَحَاسِن أساليب البلاغة؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/03 الساعة 03:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/03 الساعة 03:17 بتوقيت غرينتش

يقول البعض: "كل مردَّدٍ ثقيل، وكل متكرّر مملول" وهذا القول صار كأنه قاعدة تطلق على الْمُتَكَرِّر من اللفظ، وذلك لأن الأصل في التكرار أنه يبث في النفس الضجر والملل، وما ذلك إلا لأن التكرار اللفظي يحتاج لناظم بارع، يجعل النفس تميل إليه وتنجذب، وترغب فيه، وتشغف به، وليس كل شاعر ولا كل ناثر يملك تلك القدرة، فلا يملك ذلك إلا ذوو المواهب الخاصة، وعليه فإن مقولة [كل مردد ثقيل، وكل متكرر مملول] لا نقبلها كما هي؛ لأننا ندرك أن أكثر التكرار ثقيل مملول، لكن ليس كله، بل إننا نجد من الشعراء والأدباء من برع براعة في صياغة التكرار صياغة بديعة.

اسمع لقول أبي القاسم الشابي:
يا شِـعْرُ أَنْتَ فَـنُّ الشُّـعُورِ *** وصَرْخَـةُ الرُّوحِ الْكَـئِيبِ
يا شِـعْرُ أَنْتَ صَـدَى نَحِيبِ *** الْقَلْـبِ والصَّبِّ الْغَـرِيبِ
هل تستطيع أن تنكر على الشاعر التكرار هنا؟

بالطبع لا؛ ذلك لأنه أضفى بالتكرار أشياء ليس لتعبير آخر أن يقع موقع اللفظ المكرر، ويعطي نفس الأثر، فإن اللفظ المكرر في البيتين [يا شعر أنت] علاوة على النغم الرقيق، تجد أن نفسك قد طابت بالتكرار، كما نلحظ أن المعنى في البيتين ليس واحداً، حيث إن الكلمة لا تؤدي معناها بنفسها، بل تؤديه بالمحيط الذي تقع فيه، فإنها في البيت الثاني، لعبت دوراً، وأدت معنى، غير الدور الذي لعبته، والمعنى الذي أدته، في البيت الأول، وذلك بالصفات الجديدة التي نسبها إلى الشعر.

ومن أراد مثالاً آخر فليقرأ قصيدة [ابتسم] الرائعة للشاعر إيليا أبي ماضي سيجد أن تعبير [قلت ابتسم] قد تكرر ثماني مرات في قصيدة من واحد وعشرين بيتاً، وما أكثر الأمثلة في هذا النحو!

إن التكرار مقبول غير مذموم إلا إن كان مما يمكن الاستغناء عنه، وكان الذي نكرره خالياً من أي معنى جديد يضاف إلى الأول، فهو حينئذ يكون لغواً، لا فائدة منه، وهذا ليس منه في القرآن شيء، وقد زعم البعض أن التكرار في لغة العرب ليس من الفصاحة، وما ذاك إلا جهل باللغة وأساليبها، ولعل هذا الْمُدَّعِي سمع أو قرأ لِمَن لا يُجِيد السباحة في بَحْر العربية، فادَّعَى أن التكرار في اللغة كله مذموم -وليت شعري- ألم يَمُرّ على مسامعه آيات التنزيل التي تكرر لفظها مراراً مع بيان، وحلاوة، وطلاوة، وسحر يخلب القلوب؟!

وصدق الشاعر الذي يقول في القرآن:
عَمْرِي لَقَدْ لَذَّ في سَمْعِي مُكَـرَّرُه ** وكَلُّ شَيْءٍ على التِّكْرَارِ مَمْلُـولُ

وقد اختلف العلماء في إثبات التكرار في القرآن الكريم: "فانقسموا إلى فريقين، ففي حين رأى فريق في التكرار ظاهرة ملحّة، يرتكز عليها القرآن الكريم في بنيته، لاسيّما أن من وظائفه البلاغة، التأكيد على المعنى المقصود من الألفاظ المكرّرة"، نفى الفريق الآخر التكرار من القرآن تماماً "بادّعاء عدم الفائدة من تكرار اللفظ نفسه، في السياق نفسه، للمعنى نفسه، فحتى لو كانت الألفاظ مكرّرة، فإنها تدلّ بنظرهم على معان مختلفة".

وهذا السيوطي يرى أن التكرار من الفصاحة، بل من محاسنها: "التكرير وهو أبلغ من التأكيد، وهو من محاسن الفصاحة خلافاً لبعض من غلط".

ولم يَعُدّ الزركشي التكرار من محاسن أساليب الفصاحة وحسب، بل إنه قد خَطَّأَ من طعن في ذلك فقال: "غلط من أنكر كونه – التكرار – من أساليب الفصاحة ظناً أنه لا فائدة له، وليس كذلك، بل هو من محاسنها، لا سيما إذا تعلق بعضه ببعض".

ولنا أن نتساءل: متى يسوغ التكرارُ ويُقْبَلُ، ويُعَدُّ من مَحَاسِن أساليب البلاغة؟

وأرى أن التكرار لا يعد من محاسن أساليب الفصاحة، ولا تميل إليه النفوس، ولا تقبله العقول، إلا إذا تحققت فيه أمور أربعة مجتمعة:

الأول: إذا لم يُشْعِرْ بالملل أو الضجر.
الثاني: التغير في اللفظ المكرر، بزيادة أو نقصان، أو بتقديم أو تأخير، أو تغير المحيط الذي ينزل فيه اللفظ المكرر.

الثالث: أن يحمل فائدة جديدة أو معنى جديداً، سواء تكرر اللفظ نفسه، أو حدث فيه تغير.

الرابع: أن يرمي إلى غرض بلاغي دقيق، كالتأكيد، أو التهويل، أو التعجب، وغيرها مما سيأتي حين نتناول أغراض التكرار اللفظي.

والتكرار اللفظي في القرآن قائم، فإن اللفظ القرآني قد ينزل في كتاب الله منازل عدة، لكنه في كل منزل يختلف عنه في المنازل الأخرى؛ إذ إنه يكتسب معناه في منزله من المحيط الذي نزل فيه، فإن كان في القرآن تكرار، فإنما هو تكرار في اللفظ -واللفظ فقط- دون المعنى.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد