على عكس المتوقع يبدو الدوري الإنكليزي – على مستوى الصدارة – هذا الموسم باهتاً وليس بتلك الدرجة من السخونة والإثارة التي اعتاد عليها مشجعوها ومحبوها، الصراع على اللقب والذي دائماً ما يكون محط أنظار الكثيرين بدلاً من صراع الهبوط أو المراكز الأوروبية، يبدو محسوماً بشكل كبير لصالح مانشستر سيتي أو "المواطنون"، كما يحلو لأنصاره ذكره.
سبب هذا الاعتقاد والتكهن الذي هو مُرشح له بصورة كبيرة أن يكون واقعاً بنهاية الموسم، رجل واحد فقط إنه "بيب غوارديولا"، المدرب الشاب الذي خالف الكثير من التوقعات، بعد موسم أول مخيب للآمال على عكس المتوقع كما كان في موسمه الأول رفقة برشلونة وبايرن ميونيخ على الترتيب.
فمن هو بيب غوارديولا؟!
بعيداً عن الإحصائيات التي يعرفها الجميع، نجد أن للأصلع الحريف الذي انطلق من مركز خط الوسط كلاعب محترف مسيرة رائعة رفقة ملهمه ومدربه الأول يوهان كرويف، ولكن مسيرته كمدرب فاق كل التوقعات بعد إدخاله لتقنيات وتكتيكات ثورية في أسلوب لعب أول فريق دربه، هو لم يخترع العجلة كما يقولون، ولكن طريقة قيادة العجلة نفسها هي التي ميزته عن الآخرين.
مسيرته في الدوري الإسباني ومن بعده الدوري الألماني وحصده الألقاب حصداً وبدون منافسة تقريباً، جلب له شهرة عالمية وولاء غير مسبوق، ولا أبالغ إن قلت إن المدرب ومعه المدرب الآخر "جوزيه مورينهو" غيّرا تفكير الكثير من المشجعين، الذين كانوا في السابق يدافعون عن بعض اللاعبين ويشجعونهم بحرارة وبكل قوة ولا يقبلون فيهم حرف انتقاد.
ومع بزوغ نجم هذا الإسباني في ميدان التدريب، ظهر تصنيف آخر لمفهوم التشجيع، وهو تصنيف "مشجع المدرب"، فبينما كان المدرب تشجعيه ينتهي بنهاية مغادرته للدوري، أصبح غوارديولا وبعض المدربين الآخرين يجدون تشجيع هؤلاء الفئة أينما حلّوا وارتحلوا.
فلبعض المشجعين ليس من الضروري أن أُحب وأشجع الدوري الذي يدرب فيه مدربي المفضل، فطالما هذا المدرب تواجد في هذا الدوري فإن تشجيع الدوري والفريق الذي يدربه واجب وطني وأخلاقي وعاطفي لا يحتمل الشك، حتى لو كنت في يوم من الأيام لا أشاهد ولا مباراة واحدة فيه، ولكن طالما مدربي المفضل موجود فيه فسيتم تحطيم كل القيود.
موسم أول كارثي وموسم لم ينتهِ بعد ولكنه رائع
مع كل الإرث الجميل والمبهر والتاريخي الذي يحمله "غوارديولا" في جعبته، حل أخيراً الأصلع الفيلسوف في دوري اُعتبر من أقوي الدوريات – وإن اختلفنا في معايير هذه القوة – في القارة الأوروبية والعالم، إلا أنه ليس هنالك "عاقل" متابع لكرة القدم لا يقر للدوري الإنكليزي بقوته ومدى التنافسية العالية الموجودة فيه.
موسم أول كارثي حل فيه فريق مانشستر سيتي في المركز الثالث متخلفاً بفارق "15" نقطة عن البطل، وخرج الجميع بنهاية الموسم موجهين سهام النقد وكلمات السخرية بأن المدرب الإسباني قد فشل، وأن الدوري الإنكليزي قد كشف عن حقيقته، وأن أسطورته الحقيقية كانت بفضل لاعب واحد، بالإضافة إلى أن الدوري الذي أتي منه قبل هذا الدوري كان أضعف، وأن الفريق الذي أتى منه كان مسيطر أصلاً على الدوري ويستطيع الفوز به بمدرب الشباب، والكثير غيرها من العبارات التي تكررت أكثر من الكلمات التي مدحت البطل نفسه.
بدأ موسمه الثاني واكتسح الجميع الكِبار والصِغار، وأصبح يدك مرمى خصومه بلا رحمة ولا شفقة، مقروناً بعروض فنية على المستطيل الأخضر أبهرت الإنكليز مخترعي الكرة نفسها، وبعد إنقضاء 20 جولة – لحظة كتابة هذه التدوينة – نجد أن الفريق يتربع على عرش الصدارة بجدارة واقتدار، وظهرت نفس الفئة "مشجع المدرب" تتغنى بإنجازات المدرب – لهم الحق بالطبع – وأن الفيلسوف الأصلع قد مسح بسمعة البريميرليغ الأرض، وأن الدوري كان مجرد خدعة صدرها الإنكليز للعالم، ولكن المدرب الإسباني بعد أكثر من قرن أتى ليثبت للعالم كله وأولهم الإنكليز ومشجعي هذا الدوري ومن نصف موسم، خطأ أن الدوري الإنكليزي مجرد دوري صغير ويلعب الإعلام دور كبير في تضخيمه، وأنه لا يستحق كل هذه الضجة المثار حوله، وأن المدرب قد حطّم هيبة هذا الدوري وحوله لمجرد دوري آخر مثله مثل باقي الدوريات الأوروبية الأخرى.
ولكن هل حطّم غوارديولا فعلاً سمعة وهيبة البريميرليغ؟!
التاريخ يقول:
إن مدرب مانشستر يونايتد المعتزل آليكس فيرغسون والمدرب الحالي للأرسنال آرسين فينجر وحتى مدرب تشيلسي أنطونيو كوتيني استطاعوا أن يحققوا الدوري بفارق كبير من النقاط وصل لـ(18) نقطة لفيرغسون وبدون هزيمة لأرسين فينجر ومن أول موسم لأنطونيو كونتي.
إذاً ماذا حدث؟!
التفوق وبعدد كبير من النقاط ليس ظاهرة تحدث لأول مرة مع بيب غوارديولا والفوز بالدوري بدون هزيمة أيضاً – إذا حققها مانشستر سيتي – ليس غريباً على الدوري، والفوز بالدوري من أول موسم أيضاً سبق أن حققها أنطونيو كونتي.
إذاً ما المقصود بكل هذا التاريخ؟!
سبب الانبهار المبالغ فيه من المشجعين بفريق مانشستر سيتي ينبع من أن المدرب الإسباني أدخل أسلوباً غير معتاد على دوري معروف بطريقته الشهيرة "اضرب واهرب"؛ لذلك أصبح الجميع خاصة القادمين من الدوريات الأخرى الذين اعتادوا مشاهدة هذا الأسلوب منبهرين بهذا الأسلوب الذي فرض نفسه على الدوري بالقوة إذا شئنا دقة الوصف.
ماذا عن صاحب هذا الأسلوب؟!
غوارديولا معروف بحبه لإدخال أساليب ثورية في طُرق تدريبه، ونادراً ما يتنازل عن مبدأ الكرة الذي يقدمه؛ لذلك في موسمه الأول تلقى سهام النقد برحابة صدر؛ لأنه يعرف أنك لكي تتفوق بأسلوبك لا بد أن يكون لديك العناصر القادرون على تنفيذ هذا الأسلوب على أرض الواقع؛ لذلك دخل موسمه الثاني متسلحاً بكل الأدوات اللازمة التي تمكنه من تنفيذ أفكاره على أرض الملعب، وقد نجح بنسبة مائة في المائة حتى الآن والدليل هو موجة المديح الكبير الذي يتلقاه الآن من "مشجعيه" الذين كانوا في قمة الحسرة والحزن وهو يرون مدربهم المفضل يتلقى سهام النقد والتجريح وحيداً بعد فشله في موسمه الأول؛ لذلك علا صوتهم بصورة أكثر من اللازم – نِكايةً – في الذين وصفوه "بالفاشل" في يوم الأيام، بينما سيرته الذاتية تثبت عكس ذلك، وأن ذلك الموسم سحابة صيف عابرة ليس إلا.
إذاً ماذا عن المستقبل؟!
المستقبل بعلم المولى -سبحانه وتعالى- بلا شك، ولكن من واقع الحقائق التي نراها الآن أمامنا نستطيع أن نقول مُقدماً: مبروك لجماهير مانشستر سيتي لقب الدوري، وألف ألف مبروك "لعُشاق غوارديولا" اللقب وإثبات صحة نظريتهم، وهاردلك لجماهير الفرق الأخرى ونراكم في الموسم القادم.
ولكن!
نعود للتاريخ مرة أخرى، الذي يخبرنا بأنه لكي تتفوق وتخترع العجلة، ليس بالضرورة أن تتفوق في موسم واحد، فكرة القدم مواسم وليس موسماً واحداً، والدوري الإنكليزي على وجه الخصوص، لديه قاعدة تقول: إن "دوام الحال من المُحال"، فكم من فريق أدى موسماً خيالياً، ولكن في الموسم التالي والمواسم التي تليها خرج من خارطة التنافس بشكل كُلي، وأصبح الجميع يتذكر مركزه الحالي وأين كان مركزه في ذلك، بينما الأداء والجمالية يصبح ذكرى للذين عاشوها فقط وشاهدوها، أما من يولد بعد ذلك التاريخ فإنه مهما شاهد من مباريات لفريقه المفضل، فإنه لن يقتنع بما شاهده، خاصة إذا قارن الماضي بما يحصل أمامه الآن، وسيزيد الأمر إحباطاً إذا كان فريقه الذي يتغنى به الجميع في الماضي يعيش حاضراً كارثياً لا يسر عدواً ولا صديقاً.
الخُلاصة
فلنتمهل قليلاً وكما يقول مثلنا الشعبي "فالنضع الكورة واطة" ولا نهلل كثيراً، فالكثير والمثير قادم، والتفوق ليس بموسم أو موسمين بل بالسيادة والتفوق "طولاً وعرضاً" ولسنوات طويلة يرافقها ألقاب ونتائج يُخلدها التاريخ في صفحاته ويحفظه أبناء جيله والأجيال التي تأتي من خلفهم، أما الأداء الجميل فإن التقنية كفيلة بحفظها في أرشيفها، وسيتسنى لكل عاشق محب الاطلاع عليها وقتما شاء في أي مكان يشاء.