عهد التميمي وأليسون وأنا

نظرت إلى أليسون، وكأن الزمان توقف برهة، فكل ما رأيته فيها حين أخذت مقعدها بهدوء وابتسامة مطمئنة كان وجه عهد التميمي، فلهما الاثنتين نفس الشعر الحر المتموج، وذات العينين، ونفس الفم، غير أن أليسون أكثر اطمئناناً، وربما أقل ألماً، وبعد قليل ستعود لبيتها، أو تخرج مع صديقاتها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/27 الساعة 03:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/27 الساعة 03:12 بتوقيت غرينتش

درجة الحرارة تقارب الصفر، البرد يأكل أطرافي، والوحدة تجمد قلبي، الريح شبه هادئة، والطابور للدخول إلى القاعة طويل، لكنك لن تجد متذمراً أبداً، فخلف البوابات تتحقق الأحلام.

مر الوقت سريعاً، لعلها نصف ساعة أو أكثر، لست أدري، كنت أقرأ كتاباً، وأتفقد وجوه الواقفين في الطابور مثلي، وأحاول أن أحزر حكاياتهم، ما مضى منها وما قد يأتي.

دخلنا القاعة، لكل مكانه المحدد، بعد أن اكتمل العدد، اعتلت مديرة المركز المنصة ورحبت بنا وأطلعتنا باختصار على الإجراءات المتبعة واللاحقة، وتركتنا مع فيلم قصير، تطل بأوله أبيات الشعر المكتوبة على قاعدة تمثال الحرية والتي تقول: "امنحني متعبيك، امنحني فقراءك، وجموع الناس التواقين لتنفس الحرية". بعد ذلك تتلاحق صور لأشخاص من بلاد مختلفة مع اقتباس لهم عن حياتهم، وكيف تغيرت بعد أن حازوا المجد الأكبر: الجنسية الأميركية.
بعد أن تكرر الفيلم عدة مرات وخفت التصفيق له مرة بعد مرة، حضر القاضي وحاجبه، وعمدة المدينة، وأستاذة تمثل الجامعة المستضيفة، كانوا جميعاً جالسين على المنصة، وهناك في أقصى الشمال، انضمت إليهم أليسون، قالو بأن لها صوتاً خلاباً وستغني النشيد الوطني الأميركي.

نظرت إلى أليسون، وكأن الزمان توقف برهة، فكل ما رأيته فيها حين أخذت مقعدها بهدوء وابتسامة مطمئنة كان وجه عهد التميمي، فلهما الاثنتين نفس الشعر الحر المتموج، وذات العينين، ونفس الفم، غير أن أليسون أكثر اطمئناناً، وربما أقل ألماً، وبعد قليل ستعود لبيتها، أو تخرج مع صديقاتها.

أما عهد على الجانب الآخر من الأوطان المبعثرة، تقضي اليوم في زنزانة، لعلها مقيدة، معصوبة العينين، ولعل… أقطع أفكاري خوف أن أتوجع من وجعي عليها، وكأني إذاً لم أتخيل عذابها فكأنها لن تتعذب أو تُعذب.

بدأت مراسم الحفل بالوقوف إجلالاً لحضرة القاضي، ثم تحدثت الأستاذة الجامعية عن التنوع الثقافي، عن الحضارات، عن أحلام تتحقق هنا على الأرض الموعودة. أسرح قليلاً، أفكر ترى ما حلم عهد؟! أن تصبح طبيبة؟ محامية لتكمل رحلة الدفاع والمجابهة؟ أترى كان لديها الوقت لتحلم حين كانت أصغر؟ أما أنها حملت هم الوطن باكراً وكبرت؟!

صار دور العمدة ليتحدث، هو من أصل إيطالي، شكر الحضور بلغته الأم، وشكرهم مجدداً لأن وجودهم هنا يعني أنهم عملوا بجد واتبعوا القوانين وساهموا في رفعة هذا البلد، "أميركا قامت على المهاجرين، وهذا سر نهضتها" قال مؤكداً ومرحباً.

وفلسطين أيضاً لها تاريخ مع المهاجرين، ولها أيضاً أبناء نازحون ولاجئون، هم في كل مكان إلا على أراضيها، بعضهم ما زال يحلم بالعودة، وبعضهم مات ولم يخط على ترابها مجدداً، وبعضهم ينازع الشوق إليها وتنازعه الحياة كي ينسى، فيوماً يشتاق وسنين يسلى.

القاضي أيضاً من أصول إيطالية، يبدو مبتهجاً في وقار بحلته السوداء، تلك التي تشبه الليل الذي داهموا فيه بيت عهد، نبشوا البيت، قلَبوه وقلّبوه، واقتادوا عهد لمكان مجهول، لم ترتجف، لم تتراجع وكأنها تمضي لمصير تعرفه.

يبدأ القاضي بذكر أسماء دول المتواجدين، ست وثلاثون دولة ينتمي إليها مائتان من الحضور، يبدأ بترتيب أبجدي، ألبانيا، بيلاروس، البرازيل، وتتوالى الأسماء تباعاً. ترى لو ولدت عهد في أرض أخرى! أو زمن آخر، أكان وجهها اليوم يعلو الوجوه، أكنت سأعرفها، أكانت ستكون على منصة أخرى تمثل مدرستها في الخطابة مثلاً، أو أنها ستحيا حياة عادية، حين تصبح الحياة العادية هي حلماً للكثيرين!

ينهي القاضي القائمة، يصفق الحضور في حبور، ويضيف لعل نيل الجنسية الأميركية في هذا الوقت هو أجمل هدية بمناسبة الأعياد المجيدة، ويدعو الحضور للمشاركة الفعالة في السياسة والتنمية، من خلال الانتخاب والتطوع والمشاركة في الحملات الاجتماعية والسياسية أو حتى الترشح لمناصب محلية.

"مارس دورك وحريتك وعبر عما تؤمن به" هكذا قال، وللحرية طعم لذيذ، لها ارتواء، وهذا القلب المتعطش دوماً للحرية، وللأمان، وللحياة يسعد بهكذا فرص. أترى يدرك سعادة القاضي أن الحرية في بلاد كثيرة تأتي مضرجة بالدم! وأن المطالبة بالحرية تعني غالباً فقدانها؟!

يختم القاضي حديثه وتصبح عهد، أقصد أليسون على المنصة، صوتها خلاب ما كذبوا، تتمنى أن تسافر فيه، وأن تعيد على مسامعك النشيد. أمنح نفسي فرصة الإنصات والغياب، ينتهي النشيد فأسمع صوت عهد، حدة نظرتها، عمقها، إيمانها بما تدافع عنه.

يقترب منّي أحد المنظمين، يمنحني ورقة تحمل صورتي، وتخولني الحصول على جواز سفر أميركي، يهنئني فأشكره، وأمضي.

هذا وطني الذي أعرفه، وذاك وطني الذي لست أنساه، وبين هنا وهناك أوطان صغرى، وأحلام وحكايات تروى.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد