قد يتخيل البعض أن العرب منذ فتح مصر لم يُعنوا بحضارتها القديمة كثيراً ولا بالآثار الموجودة بها؛ لظنّهم أنها تنتمي لعصور من الوثنية.
وربما يعتقد البعض أيضاً أن بُعد زمن الفتح الإسلامي عن زمن سيادة الحضارة المصرية القديمة التي تفصلها عنها مئات السنين تخللها الاحتلال الروماني وما سبقه من حكم البطالمة لمصر، وكذلك إحلال الديانة المسيحية مكان الديانة المصرية القديمة قد ولّد انفصالاً.
ولكن الحقيقة ربما تبدو عكس ذلك، ففي كتاب (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) والمعروف بالخطط المقريزية للمؤرخ تقي الدين المقريزي المتوفّى سنة 1442 م (845 هـ)، والذي كتبه عن مصر فصول شتى تؤكد عكس ذلك.
لقد كان لكثير من العرب اهتمام كبير بالحضارة المصرية القديمة، وذلك بدوافع شتى منها ما سوف نعرضه هنا في تلك المقالة.
الانبهار وشغف المعرفة:
يروي المقريزي في كتابه جوانب من هذا الانبهار والشغف بالآثار القديمة.
فقد تحدث عن بناء الأهرامات، وقال: "ما أحسب على وجه الأرض بناء أعظم منه ولا أحسن هندسة ولا طول".
كذلك يذكر ما قاله الحولقي في صفة مصر: "وبها الهرمان اللذان ليس على وجه الأرض لهما نظير في مُلك مُسلم ولا كافر".
كلام المفكرين العرب يطول في وصف مدى انبهارهم ببناء الأهرام، فيقول أحدهم: "إنك إذا تأمّلتها وجدت الأذهان الشريفة قد استهلكت فيها، والعقول الصافية قد أفرغت عليها مجهودها، والأنفس النيرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها، والملكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل..".
ويؤكد هذا الانبهار تعدد الأشعار التى قيلت في آثارها من الشعراء العرب، كقول الفقيه عمارة اليمني عن الأهرام:
بناءٌ يخافُ الدَهر منه وكُل ما ** على ظاهر الدُنيا يخافُ من الدهر
يقول أبو الحسن المسعودي: "إن بعض ملوك الإسلام شرع يهدم بعضها فإذا خراج مصر لا يفي بقلعها، وهي من الحجر والرخام، وأنها قبور لملوك"؛ حيث لم يكن معلوماً في تلك الفترة سبب بناء ذلك الصرح بشكل قطعي.
ومن أهم أسباب الهدم كان لاستخدام حجارتها في بناء عمائر جديدة، وهذا يذكرنا بما كان يشرع محمد علي باشا في العصر الحديث في فعله؛ حيث فكر في هدم الأهرام ليستخدم حجارتها في تشييد القناطر الخيرية!
لقد حدث ذلك لدى الأفراد والحكام، فمثلاً في ولاية عبد العزيز بن مروان حين جاءه رجل يرشده لموضع أحد تلك المطالب، أمر له بنفقة لأجرة مَن يحفر من الرجال، وبالفعل بدأوا في الحفر حتى لاحت من الحفرة تماثيل وعمود من البنيان وحينها ركب عبد العزيز بن مروان حتى أشرف على الموضع، فنظر إلى ما ظهر من ذلك، فأسرع أحدهم بالنزول فإذا به يهوي في فخ عميق حتى هلك، ويُقال إنهم سمعوا لسقوطه أصواتاً عجيبة وبمحاولة الاقتراب سقط الباقون ممن كانوا يحفرون وينقبون في المكان، وكان عددهم كبيراً، فيقول المقريزي: "لقد هلكوا جميعاً، فخرج عبد العزيز وقال: هذا ردم عجيب الأمر ممنوع النيل نعوذ بالله منه. فأمر جماعة من الناس فطرحوا ما أُخرج من هناك من التراب على من هلك من الناس. فكان الموضع قبراً لهم"!
يروي المقريزي عن العلامة موفق الدين البغدادي، المعروف بابن المطحن في سيرته أنه "جاء رجل جاهل عجمي فخيل إلى الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف (1193-1200 م) أن الهرم الصغير تحته مطلب، فأخرج إليه الحجارين وأكثر العسكر وأخذوا في هدمه، وأقاموا على ذلك شهوراً ثم تركوه عن عجز وخسران مبين في المال والعقل"؛ لأن بنيانه عظيم لا يمكن هدمه.
والجدير بالذكر أن الأمير أحمد بن طولون قد أوجب على أي فرد إذا ما شرع في الحفر في تلك الأماكن الأثرية أن يأخذ تصريحاً بالموافقة منه.
محاولة فكّ طلاسم اللغة المصرية القديمة:
بعكس الصورة النمطية التي تزعم أن أولى محاولات لفك طلاسم اللغة المصرية القديمة كانت على يد شامبليون بعد الحملة الفرنسية على مصر، ومن ثم اكتشاف حجر رشيد عام 1801، إلا أن الواقع يُثبت عكس ذلك.
فربما نتعجب من حرص العرب على ترجمة كتب التراث اليونانية إلى العربية، ونتساءل لماذا لم يحاول العرب البحث في نتاج الحضارة المصرية القديمة كما فعلوا مع الحضارة اليونانية؟
لقد جاوب الدكتور عكاشة الدالي في كتابه (علم المصريات: الألفية المفقودة، مصر القديمة في كتابات العرب) الصادر عن مطبوعات جامعة لندن عام 2005 عن تلك التساؤلات، حينما تناول بالبحث بعض الكتب التي كتبها علماء عرب في العصور الوسطى، في محاولة منهم لفك طلاسم اللغة المصرية القديمة: ذو النون النبطي الصوفي في كتابه (حل الرموز وبرء الأرقام في كشف أصول اللغات والأرقام)، وأيوب بن مسلمة في كتابه (أقلام المتقدمين)،، وجابر بن حيان المتوفى 199هـ/ 815 م في كتابيه (كشف الرموز) و(الحاصل)، وأبو القاسم العراقي وأبو بكر بن وحشية الذي كتب كتاب (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام)، كل هؤلاء أسهموا بالبحث ومحاولة فك طلاسم اللغة المصرية القديمة.
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.