منذ أيّام قرأت مقالة يتحدث صاحبها عن الأذى الذي نتسبب به لأنفسنا والآخرين إن نحن طلبنا الحبّ دون أن نعرف كيف يكون، وليس المقصود هنا بالحب الحب الرومانسي الأعمى الأعرج الذي يصورونه لنا، ولكنه الحب كعاطفة عطاء وأخذ، وكأسلوب حياة وطريقة للتعامل مع الناس في حياتنا. ثم بدأت أنا أفكر إن كنت أعرف كيف أحبّ، وكيف أتعامل مع فكرة الحب هذه. ليس الأمر بسيطاً، وليس مجرد شعور غير مفسر، ليست الفكرة أنك "ستعرف عندما يأتي"، فكم منّا من عرف الحب عندما أتاه مئة مرة، وفي كل مرة كان يقول بل هو اليوم مختلف!
أول ما خطر ببالي هو كيف أننا ننتظر الحب ولا نطلبه، ولا يكون الطلب بأن نتتبع كل إعجاب أو نتلقف كل همسة وكلمة على أنها تعبير عن الحب. كثيراً ما يتندّر الناس حول حقيقة أن الفتيات والنساء يستجدين أي تعبير عن العاطفة فيفسرن أي اهتمام أو تقدير على أنه اهتمام بشخصهن أو دليل على إعجاب طرف ما بهن، ولكن لسبب ما لا يعلمه إلا الله فإن هذا الطارق يمضي الشهور وربما السنوات دون أن يقدم علامة حاسمة لهذا الحب تقطع الشك باليقين.
وقد خضتُ بنفسي صولات وجولات من معارك المنطق مع صديقات وغريبات في محاولات تنجح أحياناً وتفشل أحياناً في إقناعهن بالمقولة الإفرنجية it is all in your head. والحقيقة أن الأمر غالباً ما يكون فعلاً في رأسنا، حتى في حالات المشاعر المتبادلة، يكون الأمر في رأسنا وخيالنا، ولا تظهر حقيقته إلا عندما يتعامل مع الواقع، واقع الظروف والحياة بكل تعقيداتها، عندها فقط يخرج من المتصور إلى الحقيقي.
سأعود إلى نقطة طلب الحب، واعذروني على هذا التنقل غير السلس ولكن هذه هي علّتي في الكتابة، لعلها ترِكًة جدّي الجاحظ، مَلِك الاستطراد! إذاً طلب الحب لا يكون بالجري وراءه، على العكس من ذلك، طلب الحب لا يأتي إلا بتركه. كيف يكون ذلك؟ ستسألون.. تجربتي الخاصة التي لا أعممها على أحد تقول بأننا كثيراً ما تعمينا الرغبة عن الحاجة، نحن نريد أن نكون محبوبين، سواءً من قبل الناس أو الأصدقاء أو المحب إن وجد أو خيال المحب إن لم يوجد، نريد بشدة أن نعيش ذلك الإحساس لدرجة تجعلنا نمشي نتخبط في هذه الحياة، ويتوارى ما نحتاج حقاً خلف ما نريد.
أذكر أنني في مرحلة ما من حياتي بعد المراهقة بقليل أصبحت أحس بأن هذا الهوس بطلب الحب من أقراني في هذه المرحلة العمرية بات سجناً يقيد الحركة، الفتيات والفتيان، تراهم يقضون الليالي والأيام في هذه الحالة من الانشغال بمشاعر غالباً ما تنتهي كما بدأت، في لحظة، والعمر يضيع هكذا، في لحظة. الحق يقال، توجهت إلى الله في أحد الأيام وقلت له في لحظة من لحظات الإخلاص النادرة، أنني يا رب لا أريد أياً من هذا، لا أرى من أثر له سوى الأذى، والكثير من انشغال القلوب والندم، سلمتك قلبي ونفسي، فأمسكهما حتى يحين الموعد، واختر لي ودبّر لي. كان يقيني تاماً، ولكني حقاً لم أتخيل النتيجة التي وصلت إليها ولا تصورتها في أغرب خيالاتي. لا لم أدخل صومعة راهبة! ولكنني أعدت توجيه مفهوم الحب من الخاص إلى العام، وأصبحت أسير بخفة لا تقيدني رغبة في أن أستجلب الرضا أو أبحث عن التقدير، بل أن أرضى أنا وأقدّر.
ولكن ما بين هذا الترك وبين ذلك الجلب كان هناك من الراحة وصفاء النفس ما لم أعهده طيلة حياتي. فقد توقفت عن الطلب وتمحور كل نشاطي في البذل. أذكر أنني في تلك الفترة كنت أحاول أن أطهر نفسي قدر المستطاع، وكان أصعب الأمور عليها حينها ربما أن تغفر وتصفح عن الظلم، وأن تدعو بالخير لمن ظلمها. وقد بذلك مجوداً في تخطي تلك العقبة، الأمر ليس بالسهل. لم يكن للأمر علاقة بالمحبة التي بين جنسين، لقد أخرجت هذا الحصر للمفهوم من المعادلة، وصار الأمر بالنسبة لي طريقاً لمعرفة الله وتزي النفس أكثر من أي شيء آخر.
ولهذا فإن النتيجة التي وصلت إليها من محبة أمنحها وأتلقاها اليوم، كانت من زوج أو أهل أو رفقاء أو غرباء لا أعرفهم كلها بالنسبة لي معجزات. أنسى أحياناً وأغفل عن الإعجاز الذي فيها وكثيراً ما أحتاج إلى تذكير بجزيل النعم التي تحيطني نتيجة لها، وعندها يكون العناء الحقيقي. العناء في أن نعود للبحث عما نريد وما نحتاج بين أيدينا.
لذلك عندما أستمع لنساء أو رجال يشتكون من عدم تعبير شركاءه عن حبهم لهم بأنهم لا يقومون بتلك الأفعال الرومنسية المعهودة أشعر بنوع من الأسف عليهم قبل أي شخص آخر. فقد غفلوا عن المحبة التي تبديها الأيام في المودة والرحمة والعشرة، ونظروا فقط إلى محبة اللحظات. ستقولون ولكن تلك الأمور مهمة أيضاً، وسأقول هي مهمة لمن جعلها مهمة، وفي مجتمع حولها إلى شيء مهم، هي كماليات، يفترض أن تزين الحياة وليست مطلبًا ضرورياً يخرب البيوت وتنكسر الصلات بسببه.
أن تعرف كيف تحب يتطلب بالضرورة أن تعرف أن الحب ليس واحداً، وأن التعبير عنه لا يتبع قاعدة محددة، ليس قائمة متطلبات: زهور، كلمات عشق وغرام، اتصالات، هدايا، تضحيات غير مبررة… إلى آخر ذلك من المفاهيم سابقة التجهيز. أذكر مرة أن فتاة انتظرت شاباً سنوات عديدة حتى يتمكن من الارتباط بها، ثم وجدته فجأة ينهي الأمر ويرتبط بأخرى. طبعاً فهي ترى في نفسها ضحية لأنها فعلت كل ذلك باسم الحب، والحقيقة أن الحب لا علاقة له بالأمر، ولكنها تصورها هي عن الحب، الحب الذي يضحي تضحيات غير مبررة ولمن لا يستحق، الحب الكسيح العاجز. أليس من الحب أن يبذل هو أيضاً حتى تلتقيا في منتصف الطريق؟ ولكنها ذلك العمى الذي يتحدثون عنه. لهذا فإن الحب بصورته التي نفهما ونعيش عليها الآن ليس في الحقيقة سوى شبكة كبيرة ومعقدة من الأكاذيب والمفاهيم المشوهة والقليل من الحقيقة والواقع.
القيام بفعل الحب يتطلب أكثر بكثير من إظهاره باللفظ والفعل السهل القريب، الأمر أكثر تعقيداً من تذكر عيد ميلاد ورسالة لطيفة، وهو أطول كثيراً من نظرة أولى أو لحظة انبهار. الحب عمل بدوام كامل، يتطلب التزاماً ورغبة في بذل ما يستلزمه الأمر من مجهود حتى نتخطى الاختلافات المحتملة ونبني على المشتركات الأصيلة، وهو باب لعالم أرحب من المشاعر الأكثر استقراراً والأكثر سهولة. لا أعرف من ذلك الأحمق الذي قال بأن الحب يجب أن يكون سهلاً، ولا الأحمق منه الذي قال بأن الانسيابية التي تنتج عن العشرة علامة غياب "شرارة الحب"، شرارة الحب هذه من اسمها لحظة، ثم تختفي، ستخدمها أن فتشعل بها ناراً تأكلك، أو توقد بها شمعة تنير لك..
ولنعد كما بدأنا.. عالج داء الحب بالترك.. فالقلب الممتلئ بالخيالات لن يكون فيه مكان للحقيقة عندما تمر عليه.
هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة مدونات
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.