من زار ألمانيا، لن يستغرق الكثير من الوقت حتى يُدرك أن هذا الشعب لم يحصد لقب بطل العالم في "إعادة التدوير" بسهولة، فالنفايات هُنا تُفصل بشكل مجنون أحيانًا، والحكاية أعقد بكثير من مُجرد فصل الورق عن الطعام وعن الزجاج وعن المُغلفات وغيرها من أصناف النفايات التي لا تنتهي، فالكثير من الألمان ينظرون إلى النفايات كما لو كانت كنوزا!
في أول أيامي في مدينة آخن، حصلت معي حادثة جعلتني أشك بأن هناك أمرا ما غير طبيعي يحصل في هذا البلد، حينما حاولت أن أكون "بيئيًا" قدر المستطاع، فرحت أفصل كُل شيء حسب الأصول، حتى وجدت ذات يوم مكتوبًا فيه نفايات داخل صندوق البريد الخاص بي، صُعقت يومها ولم أفهم الحكاية.. تأملت المكتوب والنفايات طويلًا حتى وجدت جُملة مكتوبة بقلم أحمر جعلتني أفكّ اللغز بشكل أسهل، جاء فيها: "النفايات البلاستيكيّة لا تُلقى في سلّة الأوراق"، وهنا أدركت أنني قُمت بخطأ "فادح" حين أخذت كُل ما جمعته من نفايات ورقيّة ووضعتها في كيس بلاستيكي لأضعها أخيرًا في حاوية الورق، ليأتي صاحب المنزل بعدي، ويُصاب بصعقة جعلته يبحث في النفايات عن دليل يوصله للجاني فوجد اسمي وقرر أن يُبهدلني بطريقة "محترمة"، ولم تنته الحكاية، فقد بهدلني مرّة أخرى لاحقًا لأنني كُنت أجمع العُلب البلاستيكية دُون غسلها قبل أخذها للقمامة، نعم كان يطلب مني أن "أغسل النفايات" قبل أن تصبح "نفايات"، لأنها ستتحول من جديد إلى "زجاج" كأنها لم تكن يومًا نفايات!
الحقيقة أن لإعادة تدوير الزجاج حكايات كثيرة جدًا، وهي ليست بالبساطة التي كان يتخيّلها ذلك العجوز. بل المُشكلة في أنه ليس كُل ما نراه زجاج هو بالفعل "زجاج"، وبالتالي لا بُد لمن يعيش في ألمانيا أن يُدرك ويتعلم بأن للزجاج أصنافا وأشكالا كثيرة وبعض الأصناف لا تُرمى في حاوية الزجاج، بل ويُمكن يؤدي إلى مشاكل عويصة إذا رُمي في قُمامة الزجاج لأنه يحتوي على عناصر مثل الرصاص كما هو الحال في "مكتة الدخان" التي يُمكن أن تؤدي إلى تعطيل الماكينات في عملية إعادة التدوير، لتكون سببًا في كوارث قد لا يُفكر بها "أصدقاء البيئة" الحريصين.
بعد التأكد من نوعية الزُجاج، يجب أن يفصل الزجاج الأبيض الشفاف عن الزجاج الأخضر عن البني في حاويات موزعة بين الأحياء، وليست عند البيت، وبالتالي لا بُد من تخصيص وقت للذهاب إلى هذا المكان، ولا بُد أن تُراعى بضع الشروط مثل التوقيت، حيث يُمنع القاء الزجاج في أوقات الليل مثلًا كي لا يتسبب الأمر في ازعاج الجيران.. وبعد كُل هذا قد يسأل سائل؟ ماذا لو كانت هناك زجاجة زرقاء مثلًا؟ فأين تُرمى؟ بحسب "الأعراف البيئية" يجب أن تُرمى هذه في حاوية الزجاج البني، لأنها قد تشوّه بياض الزجاج الأبيض بينما هي لن تضر لون الزجاج البني، وهذا غيض من فيض حكاية إعادة تدوير الزجاج، التي لا يُمكن تفسيرها إلا بالنظر إلى نفايات الزجاج كما لو كانت هي الأخرى كنوز!
هذه الصعوبات.. لا تساوي شيئًا أمام الصعوبات في مجالات أخرى، مثل نفايات البناء التي تشكل النسبة الأكبر في بلد مثل ألمانيا، وقبل بضعة أسابيع كُنت في مُحاضرة عن هذا الموضوع في جامعة آخن التقنية ضمن أمسية ليلة العلوم التي تُعرض فيها آخر الأبحاث التي يتم العمل عليها في الجامعة بشكل خاص وفي ألمانيا عمومًا، فوجدت باحثة في الهندسة تتحدث عن "ورطة" حقيقيّة تواجه قطاع البناء والنفايات الناجمة عنه والتي تصل نسبة إعادة التدوير فيها إلى 15% فقط، وبالتالي فإنه لا بُد من حلول ذكيّة، وهو ما حفّزها وفريقها للعمل على إعادة التفكير بتصميم المُدن والأبنية بحيث تُصبح قابلة لإعادة التدوير، ولكن مع فكرة جديدة! فالمسألة لا تنحصر في التصميم الذي يجعل المبنى قابلًا لإعادة التفكيك بسهولة كما لو كان قطعة "ليغو"، بل في تأسيس منظومة ذكيّة ترصد كُل الموارد الممكن تدويرها في داخل الأبنية بكميّاتها وأعمارها الافتراضية، وبانتهاء عمرها الافتراضي يتم التبليغ عنها كمورد قابل لإعادة التدوير والاستخدام من جديد، وهكذا يُمكن للمدن أن تتحول شيئًا فشيئًا إلى مصادر للموارد اللازمة للبناء، بدلًا من الحفر في أعماق الأرض للبحث عنها، وهي فكرة ليست سهلة ولا حتى بسيطة على التطبيق، ولكن حماسة الفريق والهوس بإعادة التدوير، تجعل هذا الحلم في عيون أصحابه مسألة وقت ليس أكثر!
قد تكون هذه الأفكار مُعقدة فعلًا وغير قابلة للتطبيق بسهولة، ولكنها جيّدة بل ممتازة كي نُدرك على الأقل أن هذه "الأشياء" التي نُسميها "زبالة" أو نفايات ولا نُبالي بها وهي ملقاة على هوامش الطرقات في بلادنا، وفي المكبات التي تقتلنا بروائحها، هي كنوز في عيون الآخرين!
هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة مدونات
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.