تراث فلسطين.. الذي لم يُترجم بعد!

حين رأيت موسوعة الفولكلور الفلسطيني للباحث نمر سرحان قبل عشرة أعوام في أحد معارض الكُتب في فلسطين، شعرت بشيء من الفخر والانبهار واشتريتها دُون تردد

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/10 الساعة 06:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/10 الساعة 06:23 بتوقيت غرينتش

حين رأيت موسوعة الفولكلور الفلسطيني للباحث نمر سرحان قبل عشرة أعوام في أحد معارض الكُتب في فلسطين، شعرت بشيء من الفخر والانبهار واشتريتها دُون تردد، فهي تتألف من ثلاثة أجزاء وتحتوي الكثير من التفاصيل التي كانت تُشعرني بمُتعة فائقة وأنا أطالعها، ولم أكن أتخيّل أبدًا أن يأتي يوم أعثر فيه على "موسوعة" باللغة الألمانيّة تتناول التُراث الشعبي الفلسطيني في سبعة مُجلدات ضخمة عُمرها حوالي 100 عام، كتبها المستشرق "غوستاف دالمان" الذي قضى أكثر من 15 عامًا من حياته في فلسطين، ليكتب بعد عودته هذا العمل الضخم المُسمى: "العمل والعادات في فلسطين" -بالألمانية: Arbeit und Sitte in Palästina-.

صحيحٌ أن دالمان لم يكتب ما كتب حرصًا على حفظ التراث الفلسطيني، إلا أن من يقرأ مُقدمة الموسوعة سيجد الضخم شغفًا وانبهارًا بسحر هذه الأرض وطيبة أهلها وكرم الضيافة فيها. في أولى صفحات المُجلد الأول راح يمدح "سحر الشرق" فيها "قبل أن يصلها الاحتلال البريطاني وقبل بدء الهجرات الصهيونية". فمن متعة الجلوس على الأرض والاستمتاع بكرم الضيافة الفلسطينية إلى متعة الإصغاء إلى راعي أغنام يعزف لحنًا على "الشبابة"، كل هذا جعله شغوفًا بطبيعة الحياة الفلسطينية، هذا غير جلساته مع صديقه "عبد الوالي" الذي يتكرر ذكره في الكتاب ويعترف الكاتب في المقدمة أنه هذا الفلسطيني كان بمثابة كنز في معرفة التراث الشعبي، ولهذا كان يدوّن حكاياته وأشعاره بكتابة النص العربي بحروف لاتينية ثم يترجمها إلى الألمانية.

الحقيقة أن أهمية هذه الموسوعة لا تكمن في ذكر القصص الشعبية والأشعار والأغاني، بل التفاصيل الدقيقة والجداول البيانية كما الصور التوضيحية التي التقطتها الكاتب قبل 100 عام بالإضافة إلى أنه لم ينس أن يُحدثنا عن تجاربه الشخصيّة التي عاشها وحواراته مع بعض السُكان لفهم طبيعة حياتهم بشكل أفضل، هو ما جعلني أدوّن شيئًا من تلك التفاصيل هنا:

ففي المُجلد الأول مثلًا، وهو يتألف من أكثر من 300 صفحة، يتناول الباحث كُل ما له علاقة بفصل الخريف والشتاء، فنجده لا يكتف بسرد المعلومات عن درجات الحرارة وسرعة الرياح في فقط ولا حتى الأمثال الشعبية المُتعلقة بالزواج في الشتاء مثل "اللي بتزوج في كانون بلحس القدور" بمعنى أنه لن يجد ما يأكل أو "في الميلاد رُد العدس للأولاد"، بل يتحدث عن تجربته الشخصية في أنه -وهو القادم من ألمانيا – لم يعرف طيلة حياته شتاء أبرد من شتاء 1902 في فلسطين، ولهذا فإنه يخصص بابًا للحديث عن إشكاليّة التدفئة فيذكر فيه أنه وخلال رحلته إلى فلسطين تعرف على بدوي في مدينة حلب السورية وسأله عن كيفية تعاملهم مع البرد القارس فأجابه: "عندما نشعر بالبرد الشديد، نبدأ برقص الدبكة"!

في المُجلد الخامس مثلًا، يستفيض الكاتب في الحديث عن الزي الفلسطيني وأنواع الأقمشة وغيرها من التفاصيل، فراح يُفصل في شرحها حتى جعل في نهاية المُجلد المُكوّن من أكثر من 450 صفحة مجموعة من الصور التوضيحية المهمة جدًا، فالصور التوضيحية لا تكتفي بتوضيح شكل "النعال" في فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر، بل توضح أنواع النعال "الصنادل" حسب المناطق، فتلك المصنوعة في الخليل تختلف عن تلك التي في القدس أو حِزما. ومما يُميز هذا المجلد أنّه لم يركز على زي النساء فقط، بل يُفصل في الزي الشعبي للرجال فيعرض بالإضافة إلى الصور الفوتوغرافية رسومات للمقاسات بكُل التفاصيل اللازمة لإعادة صناعة من هذه الملابس.

هذه التفاصيل المُميزة، والصور التوضيحية نجدها أيضًا في المجلد الرابع الذي يتناول صناعة الخبز والزيت والخمر في أكثر من 500 صفحة، فعند حديثه عن الخبز لا يترك شيئا يفوته بتاتًا، حتى أنه يعرض في نهاية المجلد صورة توضيحية لأنواع الخُبز المتعارف عليها في فلسطين خلال إقامته والتي يصل عددها إلى 13 نوع، من الكعك المبروم إلى الكعك المُسَمْسَمْ مرورًا بالكماج و"المرقوق" و"الكردوش" وحتى خبز الصاج والطابون. كُل هذا بالإضافة إلى مُخططات لرسومات هندسيّة لأنواع الأفران المختلفة، وهي تفاصيل لا نجدها غالبًا كما لا نجد جداول بيانيّة مثل ذلك الجدول الذي يوضح أهم الأعشاب بشكل بسيط مع أسمائها اللاتينية والعربية، بالإضافة إلى طرق أكلها، مطبوخة أو نيّة.

الحقيقة أن كميّة التفاصيل في الموسوعة مُدهشة، ولا غنى عنها لأي باحث في التراث الفلسطيني، كما أن الإلمام بها يُمكن أن يُساهم كثيرًا في مُقاومة حملات تشويه وسرقة التراث التي يشنها الاحتلال الصهيوني، مثل سرقة "الحمص" و"الفلافل" وحتى "الكعك" المقدسي و"الزعتر" الذي قدّمه نتنياهو للعالم قبل أيام قليلة باعتباره أفضل التوابل الإسرائيلية!

أفلا تستحق هكذا موسوعة أن نأخذ أفضل ما فيها، لنقدمّه للقارئ العربي والفلسطيني باللغة العربية؟

هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة مدونات

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد