الطاعون ورقصة الموت

والحقيقة أن اللون الأسود الذي التصق بهذا المرض لا تقتصر دلالته على الموت فحسب، بل هو جزء لا يتجزأ من طبيعة هذا المرض ذاته؛ حيث تنطوي أعراضه على بقع نزفية حمراء منتشرة تحت الجلد لا تلبث أن تتحول إلى بقع سوداء مخيفة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/07 الساعة 05:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/07 الساعة 05:49 بتوقيت غرينتش

إنه المرض الذي اقترن بالموت دوماً عبر صفحات التاريخ، فهو مرض قديم ومعدٍ، حصد الملايين من الأرواح في العصور القديمة والوسطى، ولهذا أطلق عليه الطبيب الألماني يوستوس هيكر مسمى الموت الأسود في كتابه الشهير الذي حمل عنوانه "الموت الأسود في القرن الرابع عشر"، وذلك بعد أن تسبب في وفاة أكثر من 50 مليون شخص في أوروبا.

والحقيقة أن اللون الأسود الذي التصق بهذا المرض لا تقتصر دلالته على الموت فحسب، بل هو جزء لا يتجزأ من طبيعة هذا المرض ذاته؛ حيث تنطوي أعراضه على بقع نزفية حمراء منتشرة تحت الجلد لا تلبث أن تتحول إلى بقع سوداء مخيفة.

ومن الأعراض الأخرى التي تنتاب مريض الطاعون الشعور بالصداع والبرد في الأطراف، وسرعة في ضربات القلب، ثم يحدث نزيف تحت الجلد، ويسبب لطخات على الجلد، ثم يبدأ الجهاز العصبي في الانهيار؛ ليعقب ذلك عدد من الاضطرابات العصبية الغريبة التي يتمايل منها المريض وكأنه يرقص رقصة الموت، والتي لا تدوم طويلاً، فما هي إلا أيام عدة ويتشح الجلد باللون الأسود ويفارق المريض الحياة.

قد يصاب مريض الطاعون بالالتهاب السحائي meningitis كأحد المضاعفات النادرة، وقد يصاب أيضاً بهبوط شديد بضغط الدم والناشئ من العدوى بميكروب الطاعون septic shock، كما قد يحدث موت للأنسجة والتهاب أو نزف الأغشية حول القلب pericarditis، وكل ذلك قد يؤدى للوفاة.

ويرجع السبب في الطاعون إلى نوع من البكتيريا حيوانية المنشأ تسمى يرسينيا طاعونية، نسبة إلى مكتشفها الطبيب الفرنسي السويسري ألكسندر يرسن عام 1894.

وهذه البكتيريا تشتهر بها القوارض مثل الفئران، وتتكاثر بداخلها وتنمو، وتنتقل إلى الإنسان عن طريق البراغيث التي تلدغ الفأر المعدِي ثم تلدغ الإنسان، أو نتيجة عض الفئران المعدية للإنسان بشكل مباشر، أو تنتقل العدوى من شخص إلى آخر بصورة مباشرة من خلال الرذاذ والكحة والعطس، وذلك في حالة الطاعون الرئوي، ومن الحيوانات الناقلة للمرض أيضاً القطط والكلاب.

ويوجد نوعان رئيسيان من عدوى الطاعون هما: الطاعون الدبلي، والطاعون الرئوي، والطاعون الدبلي هو الشكل الأكثر شيوعاً، ومن أعراضه التورم المؤلم للعقد اللمفية أو "الأدبال"، ويمكن أن تتحول العقد اللمفية الملتهبة في مراحل العدوى المتقدمة إلى تقرحات مليئة بالصديد، وهو النوع الذي أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- في إعجاز نبوي خالد، ففي حديث روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: "غدة كغدة البعير يخرج في المراق والإبط".

أما النوع الثاني وهو الطاعون الرئوي الذي يصيب الرئتين فهو الأشدّ فتكاً، وهو شكل نادر من المرض، ويمكن ألا تزيد فترة حضانته على 24 ساعة.

وينجم هذا الطاعون في العادة عن انتشار الطاعون الدبلي بمرحلة متقدمة في الرئتين، كما أن أي شخص مصاب بالطاعون الرئوي باستطاعته نقل عدوى المرض إلى أشخاص آخرين بواسطة الرذاذ المتطاير من فمه.

وقد يموت المريض المصاب بالطاعون الرئوي إذا لم يُشخّص ويُعالج في مرحلة مبكرة، كلا النوعين السابقين يؤدي إلى نوع ثالث، وهو طاعون التسمم الدموي الذي يحدث عندما يتضاعف عدد البكتريا المسببة للطاعون بالدم، ومن أعراضه السخونة والرعشة وآلام البطن والإسهال والقيء والنزيف وحدوث غرغرينة في الأطراف.

في الماضي حاط هذا الوباء طرائف عدة من حيث أسبابه وطرق الوقاية منه لطول صحبته القاتلة للبشر! ولعل من ألطفها سؤال السلطان المملوكي الأشرف برسباي -وقد انتشر الطاعون في مصر في زمانه إلى درجة موت أربعة وعشرين ألفاً كل يوم- للفقهاء والعلماء فى مجلسه: هل يعاقب الله الناس بالطاعون بسبب ذنوبهم؟ فأشاروا عليه: إن الزنا إذا فشا في قوم ظهر فيهم الطاعون، وإن النساء يتزيّن ويمشين في الطرقات ليلاً ونهاراً فأصدر السلطان برسباي من فوره قراراً بمنع النساء من الخروج من بيوتهن إلى الشوارع والطرقات حتى يتوقف الطاعون بالبلاد!

غير أنه سرعان ما أصيب برسباي نفسه بالطاعون، والواضح أن طبيبه المصري شمس الدين بن العفيف قد نجح في تخفيف بعض أعراض مرضه بالطاعون في مراحله الأولى والخاصة بالبطن والإسهال، وهو ما يتضح من هذه الوصفة العلاجية التي كتبها ابن العفيف لعلاج برسباي، والتي أخذت شكل التذكرة العلاجية بشكلها الحالي، ونستعرضها لندرتها فيما يلي:

وجاء نص الروشتة كالآتي:

[الحمد لله وحده،
سفوف يعرف بسفوف الكفاية من ديوان ابن العفيف ريس مرستان مصر قال: يؤخذ فرض ربع قدح أنيسون مثله شمار مثله كمون كرماني وزن أوقيتين.. كابلي وفيه سنانير أوقية بذركشرت أوقية شيح شامي أوقية لوز أوقيتين تحمص القرض والشمر وتطحن ويدق بقية الحوائج
واجمعهم وأضف إليهم من ماء الفجل الرملي ثلاث أواق وماء شمر أخضر مثله وورق حزمتين ريحان وورق حزمة نعناع وماء عنب ديب ثلاث أواق ثم ورق حزمة مرسين طري مدقوق وماء كرفس ثلاث أواق، فيخلط الجميع ويسقى بهم السفوف ثم يجف، ثم يعاد كذلك حتى يشربوا جميع الماء، ويضاف إليهم ربع رطل سكر أبيض، ويسف منه صباحاً ومساء نافع، ذلك لداء في الجوف].

غير أنه وربما كان ذلك راجعاً إلى المضاعفات العصبية اللاحقة للطاعون التي لم يكن لهذا الطبيب إلمام بها في هذه العهود القديمة، فقد تنكر برسباي لطبيبه، وقلب له ظهر المجن، فأمر بشقه نصفين بالسيف ضارباً مثالاً لجزاء سنمار!

كما أمر بنفي الكلاب إلى الجيزة وجعل لكل من يمسك كلباً نصف فضة، فانبري الشعب في جمع الكلاب للحصول على المكافأة وربما كان ذلك راجعا إلى معرفته أن الكلاب سر مرضه، فأراد أن يتخلص من الكلاب وشعبه دفعة واحدة! كما أطلق سراح المساجين لديه وأغلق السجون فعمت الفوضى وانتشرت السرقات!

وللوقاية من الطاعون: يجب تجنب أماكن تواجد الحيوانات العائلة للمرض وأهمها الفئران والتخلص منها ومن الحشرات الناقلة -وأهمها البراغيث عند تواجد الطاعون كما يجب عدم السفر إلى البلاد الموبوءة بالطاعون، وكذلك العزل الإجباري للمريض في أماكن خاصة في المستشفيات، حتى يتم الشفاء التام، وهنا تتجلى عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: "الطاعون آية الرجز ابتلى الله عز وجل به أناساً من عباده، فإذا سمعتم به فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تفروا منه".

كما يجب تطهير إفرازات المريض ومتعلقاته والتخلص منها بالحرق وتطهير أدوات المريض بالغلي أو البخار تحت الضغط العالي حتي يتم تطهير غرفة المريض جيداً بعد انتهاء الحالة. كما يجب على مقدمي الرعاية الصحية لبس القفازات والمرايل والأقنعة، وقديماً كان "طبيب الطاعون" يرتدي قناعاً شبيهاّ بالمنقار ومملوءاً بالمواد العطريّة لتحميه من الهواء العفن المحيط بالمرضى، فأصبح هذا الوجه فيما بعد أحد الرموز المميّزة لتلك الحقبة.

ومن الإجراءات التي لا تقل أهمية التدقيق في ملاحظة المخالطين للمرضى، وخاصة عند ظهور أي أعراض عليهم – مثل ارتفاع الحرارة أو تورم بالغدد الليمفاوية فيجب البدء في إعطائهم المضادات الحيوية.

يشمل علاج الطاعون أدوية متعددة، على رأسها المضادات الحيوية فكان يستخدم قديماً لعلاج الطاعون الدبلي دواء الستربتوميسين كخط دفاعي أول في العلاج إلا إن الدراسات الحديثة تشير إلى فاعلية أكبر لجنتاميسين، وفي حالة التهاب أغشية الدماغ يعطى المريض الكلورامفينيكول لقدرته على الوصول والتركز في السائل المخي الشوكي، وقد وافقت هيئة الغذاء والدواء الأميركية على استخدام اليفوفلوكساسين وموكسيفلوكساسين في العلاج وفي الوقاية عند التعرض للطاعون، أما دواء البنسلين فلا يفيد إطلاقاً في علاج أي نوع من أنواع المرض. هذا وقد يحتاج المريض إلى أكسجين لمساعدته في التنفس كما أن أغلب المرضى يعانون من انخفاض شديد بضغط الدم بسبب العدوى بميكروب الطاعون، مما يتطلب متابعة المتخصصين لهم في وحدة العناية المركزة.
أما أقارب المريض والعاملون في المستشفى فيتم احتراز إصابتهم بالمرض، وذلك عن طريق إعطائهم التيتراسايكلين أو الدوكسيسايكلين، وذلك لمدة سبعة أيام.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد