هزيمة زخم الحياة

تخرج من البيت ومع كل خطوة إلى الأمام تريد العودة للخلف؛ لأنك لا تريد أن تخطو في مياه الصرف الصحي الطافحة في الشارع المجاور، ولا تريد أن تسمع شكاوى وفتاوى سائق التاكسي عن آخر تطورات السياسة والاستراتيجية في المنطقة، ولا تريد تناول إفطار عام يُكركع معدتك، ولا ترغب في التعامل مع زملاء عمل سطحيين.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/01 الساعة 02:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/01 الساعة 02:59 بتوقيت غرينتش

تستيقظ على صوت هاتفك الذكي الذي ضبطت منبهه الليلة الماضية محدثاً نفسك حينها أنك ستحصل على 5 ساعات و26 دقيقة إذا ارتخيت في النوم الآن، تفيق، ترتب أغراضك، حقيبتك، وما تبقى من شعر رأسك، وتهم للخروج كآلةٍ تعرف من مسارها إيقاع الملل والرتابة، لتكدّس يوماً جديداً على كومة أشباهٍ سبقته.

تخرج من البيت ومع كل خطوة إلى الأمام تريد العودة للخلف؛ لأنك لا تريد أن تخطو في مياه الصرف الصحي الطافحة في الشارع المجاور، ولا تريد أن تسمع شكاوى وفتاوى سائق التاكسي عن آخر تطورات السياسة والاستراتيجية في المنطقة، ولا تريد تناول إفطار عام يُكركع معدتك، ولا ترغب في التعامل مع زملاء عمل سطحيين.

لا تريد سماع أغانٍ شعبية مصرية وأنت في طريقك للمنزل حال قررت العودة ممارساً رياضة الفقراء، ولا تريد سماع ذكور يتحرشون لفظياً بفتياتٍ خرجن لنزهة قصيرة بعد المدرسة أو الجامعة، أنت لا تُفضل التزاحم على طابور المخبز، ولا تحب نظرات الناس إليك إذا دخلت حارة صغيرة لا تعرفها، أنت لا تستسيغ أن يتقاذفك الموظفون الحكوميون لإنجاز معاملة بسيطة، أنت تكره أن تذهب للمستشفى وتبحث عن الطبيب؛ لأن أحد أحبائك يصرخ ألماً والطبيب المناوب يتناول الإفطار على طاولة تقطيب الجروح.

أنت لا تحب كل ذلك، بل أنت تكرهه كله، لكن لكونك جزءاً من هذه الفوضى بشكل أو بآخر يجعلك تقبل وتتساهل، وحين تتكاثر الهموم يصبح إغفال العقل أكبر، وتغليب اللامنطق أكبر.

تستيقظ، وتستيقظ مرة أخرى، الأولى بسبب ساعتك البيولوجية التي تعمل حتى خلال أيام الإجازة المختلسة وسط الأسبوع، والمرة الثانية على أصواتٍ تتجاهل جمالها؛ لأنك اعتدت عليها، أو لأنك كرهت مدينتك حتى لم تعد تحب كل ما يرتبط بها.

سمعت صوت البائع الذي يغني صباحاً "اللبن واللبنية والجبنة البلدية"، وعاد إليّ صوت بائع الترمس "أبو كويك" عند المغيب، وسمعت موسيقى السيارة التي توزع المياه العذبة، لاحظت أنها مقطوعة Für Elise لبيتهوفن، وبعدها تذكرت ذلك المُسن الذي اعتدنا شراء الجوافة منه، كان يزرعها في منزله، ويوزعها مع زوجته التي لا تفارقه على عربةٍ متواضعةٍ يجرها حمار، وإن كان الجو ماطراً ولا نستطيع سماع ندائه كان يترك نصيبنا خلف الباب دون ثمن.

استهوتني فكرة المدينة القديمة ببعض عاداتها الأصيلة، فقصدت مخبري المدينة الذين اشتهروا كمنسقي ودلالي الخطوبة والزواج، وهم أصحاب محال الملابس، فحدثني أحد المسنين ممن قضوا عمرهم في الأسواق، أنهم كانوا يرفضون البيع أحياناً؛ لأنه إذا "استفتح" نهاره ببيع، كان يقول للزبون: اذهب عند جاري فاسشترِ منه؛ لأنه لم يستفتح يومه حتى الآن.

تذكرت أمين المكتبة أو صاحب متجر الكتب قديماً حين كان يحرص على حصولك على الكتاب المفيد والمراد، وليس الحصول على حقيبتك لوضعها في الأمانات، أو قبض ثمن طباعة الكتاب، متجاهلاً قيمته دون الأوراق، أسمع رجع صوته حين كان يقول: إن الأساتذة وأصحاب الدراسات العليا أحرقوا أموالهم بسنوات الدراسة، وكان يمكنهم الحصول على ذلك بثمنٍ زهيدٍ لقاء اشتراك المكتبة الشهري.

أين ذهبت رسائل المحبين الخجولة التي تُترك على مقاعد المنتزهات؟ وكيف اختفت من ملابس الشبان السترات القماشية والقبعات الأنيقة؟ ولماذا لم تعد الطريق نظيفة كما كانت والثمار تتدلى من أشجارها؟ ومن أسكت صوت أم كلثوم وروحي الخماش وعبد الحليم من المقاهي في ساعات المساء، واستبدلها بصوت مباريات كرة القدم الأوروبية؟

بساطة الناس، وألفة الجار، والإخلاص في العمل، والصدق في المعاملة، وحب الغير، كلها أمور بدأت مدينتنا بخسارة معظمها، والمسؤول عن ذلك نحن الذين كرهنا يومنا، وبكينا على أمسنا، ويأسنا من غدنا.

هذا لا يحدث في غزة وحدها، لكنها المنطقة التي أسكنها، المدينة التي تسكنني ولا أعرف سواها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد