ظواهرُ الإرهاب وبث الكراهِية والعنف أعادت إليّ دوائر الجَدل السياسي والثقافي، اليوم ومنذ عقد "التعايش" ليكون حَلقة التداول، والسؤال المُلِحّ في كل محفل ونادٍ دولي.
إميل دوركهايم العالم السوسيولوجي يؤسس في أبحاثه للتعايش الثقافي، من خلال تدعيم (القيم المشتركة)، كما كتب، أنه ودون مُراعاة القيم المُشتركة لا وجود لتعايش ممكن.
من المؤكد أننا في حرب تتخذ صوراً عدة مُغايرة عن الصورة النمطية للحروب فيما مضى، حيث التفجير بالوكالة تحت فزاعة الإرهاب، والتي تنتج أشكالاً من الأحقاد لتكبل المجتمع بمفاهيم التمييز والقطيعة، واستبعاد أدنى إمكانية للتواصل والحوار والتضامن، أي مُخاصمة لأي مفهوم ضامن للاستقرار بين أفراد المجتمع الواحد.
ورغم كل آليات المُقاربة والاندماج في عالم تتقلص المسافات بين فضاءاته، تتضاعف الهوة ويتسع الشرخ معززاً لغة التنافر والتنابذ والصراع والتعصب للفكرة الواحدة، فكيف يمكن ترسيخُ مبدأ الاختلاف والتنوع دون جعل التنميط القسري بديلاً للتعددية؟
فمن سطوة أمراء الطوائف، وعنفِ التمزق الطائفي والإثني الذي أنتج ثقافات بَديلة عن الحاضنة الوطنية، إلى تطرفِ الإرهاب وهيمنة خطاب التفاضل وتصاعد الدعوات الطائفية التي تضعف الكيان الوطني الجامع.
ولم تُطرح في العراق معضلة التعايش مثلما أضحت عليه اليوم، ذلك أن المجتمع بات يقف على حقيقة أنه يعيش أزمة مجتمعية ما فتئت تستفحل حولاً بعد حول، من أهم مظاهرها هو تغربُ العِراقي في وطنه، أزمة هوية، وإحساس بالضياع والميل لمقت الأواصر التي تصلهم بالوطن إلى التشبث بالفرعيات بديلاً قوياً، وأكثر من يقض هذا الأمر مضاجعهم هم بالدرجة الأولى المثقفون والمفكرون الذين تغربوا شيئاً عن العراق، أما السياسيون لا يكادون يجدون فيه سوى مياه متعكرة يصطادون فيها.
وعندما شخص الجميع أن المجتمع يعيش تفككاً وتنافراً بين فئاته، وببروز ألوان من السلوك لم تُعهد من قبل، صارت الدعوات إلى شد عُرى الالتئام والالتحام، لتظهر المصالحة الوطنية! وحَملة "خلّ نتصافى" من الشباب المدَنيين، وراح البعض يعتقد أن سبب التصدع المجتمعي مرده الناس، واختلافات الدين والعِرق والارتباطات المذهبية فعمدوا لاجتذاب واستنفار من يعلمون أن له من الأتباع ما يمكن به رصّ الصف وتوحيده.
غير ذلك أن مُعسكراً من السجاليين ومن أشباه المثقفين يرون أن سماء العراق مُلبدة بالغيوم الداكنة وأن العاصفة ستقصفُ المدن فتراهم يُنكرون أي تعايُش ممكن، ويرفضون التعددية الثقافية، كل ذلك من أجل مكاسب سياسية وأرباح انتخابية، لا بد أن الحيثيات العالمية مقُلقة وأنها تفجر أكثر التناقضات المختبئة تحت قشور التأزم الاجتماعي والسياسي في العراق.
وقد لا يخطئ الكاتب الأميركي "سنيدر" الذي قال: إن البشرية قد تعرف إبادات جديدة مثل التي حدثت في الماضي، والتي يكون سببها: الأرض والغذاء.
في حالتنا العراقية هناك حاجة ملحّة وضرورية لإعادة خطاب التعايش الذي عرفته حضارتنا البشرية، إن حديثنا عن التعايش والمواطنة قد يعد نوعاً من الترف في أزمنة الاقتتال، وفي وقت تشتعل فيه الجبهات السياسية والعسكرية، وتُغذى الحملات بفكر العصبيات التي استخدمها البعض أسلحة لفظية وعنفية، ومكائد ورشاوى لإبعاد العراقيين عن جوهر العملية وأهدافها.
غياب مفهوميّ التعايش والمواطنة في العراق عن مَسيرة العملية السياسية جعلها عَقيمة، وربما عنيفة ودموية، ومما زاد الطين بَلة تمسُك قادتها بمبدأ (التوافق)، الذي استبدل الديمقراطية بالتوزيع المحاصصيّ، للسلطة والثروة، الذي تحول إلى شبح يُداهم العراقيين، إن تغييب مبادئ المواطنة أدى إلى ازدهار العقل المناطقيّ والمذهبيّ، الذي أسهم بتسويق الطائفية والإثنية على حساب الهوية الوطنية، فغيابُ التعايش همش شرائح اجتماعية بعيداً عن مبدأ المشاركة الذي تفرضهُ الحقوق الوطنية.
فتراجع التعايش إلى التخندق والانعزال واشتداد النزعة العصبوية، وجاء الفصل الطائفي ليتحول العراق إلى مجتمعات "غيتو" وكنتونات للطائفة والإثنية في أماكن التعايش بالتهجير والتطهير والإذابة أو القتل على الهوية ما يُعمق تمزيق النسيج أكثر، تماماً كنظرية علي الوردي عن "البداوة والعصبيات" التي حَسبنا أنها انتهت إلى غير رجعة، وما كان إلا غطاء أيديولوجياً لإضفاء نزعة طائفية وشوفينية، ومن يؤيدها فإنما يؤيد فكراً غابراً أثبتت الحِقبُ التاريخية عُقمه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.