"أبي اختار لي اسمي.. وأسلافي اختاروا لي اسم عائلتي.. هذا يكفي، أنا مَن أختار طريقي" – علي شريعتي.
جُلّ الآباء لا يدركون أن على حسب البيئة المحيطة والتفاعلات العاطفية التي يعيشها الطفل في سنواته الأولى تؤسَس وتُأصل لديه مجموعة دروس عاطفية تعيش معه مدى الحياة كمرجعية ليتعامل مع محيطه، الدماغ لا يخزن معلومات ويحللها فحسب؛ بل يخزن المشاعر والأحاسيس والعواطف في جزء من الدماغ يسمّى اللوزة الدماغية (Jmygdala).
والدكتور (Joseph ledoux) كان من الأوائل الذين اكتشفوا الدور المهم للوزة الدماغية في تكوين تصرفات العقل، وبيَّن أن هذه الغدة تستطيع السيطرة على أفعالنا في الوقت الذي لا يزال فيه العقل الواعي يفكر في اتخاذ القرار، لهذا فإن عملها شبيه بكاميرات الفيديو التي تسجل كل ما تقع عليه العين وتخزّنه؛ ليُشكل المرجعية النفسية للطفل؛ لهذا فإن علم نفس يقول: أعطني اهتماماً وعنايةً في الخمس سنوات الأولى أُعطك إنساناً ناضجاً.
إن مجتمعات مثل مجتمعاتنا العربية يُنظر فيها إلى الطفل على أنه جاهل، مع العلم أن الطفل يفهم آلاف الكلمات قبل سن الخامسة، كما أنه يتأثر أكثر من أي شيء بوالديه، فهم بمثابة المِرآة التي تعكس له الحياة.
نجد في كتاب أرض جديدة للكاتب إيكارت تولي: "على الآباء أن يمارسوا وظيفة الأب والأم من دون أن يحولوها إلى دور يستخلصون فيه معنى حياتهم ويتحسسون كينونتهم فيه، مما يؤدي إلى تضخم هذه الوظيفة ويتحول واجب إخبار الطفل بما عليه وما ليس عليه فعله إلى حاجة أبوية تتمثل في صور من السيطرة والهيمنة"، وهذا يشكل ضغطاً إضافيا على الطفل.
ظهرت قبل سنوات دراسات وكتب تتحدث عن نوع مختلف من الذكاء، وهو ما يسمى بالذكاء العاطفي، ويُعتقد أنه يحدد ثمانين من المائة من احتمالية نجاح الفرد أو فشله، أي أكثر من تأثير الذكاء العقلاني. ويمكن تعريف هذا النوع من الذكاء بخمس قدرات مختلفة:
1- قدرة الشخص على معرفة وفهم مشاعره الخاصة، وذلك بمراقبة مشاعره النفسية أثناء حدوثها وتحليلها لمعرفة أسبابها وفهمه لأبعادها.
2- المقدرة على السيطرة والتحكم في المشاعر النفسية، وهي تتسبب بدورها في النهوض بعد السقوط، والتغلب على المحبطات والنكسات.
3- القدرة على تحفيز النفس عن العمل، لتحقيق الأهداف وتقديم العمل على الراحة.
4- القدرة على ملاحظة وفهم وإدراك العواطف والمشاعر الإنسانية لدى الآخرين، وهي ملاحظة التغيرات الاجتماعية فيمن حولهم وفَهم اِحتياجاتهم النفسية.
5- القدرة على التعامل مع العلاقات الشخصية والتحكم فيها، وهي تحدد مدى شعبية الشخص وقدرته على القيادة.
المشكلة أن جل الآباء والأمهات لا يدركون أن هذه القدرات الخمس تتكون في السنوات الأولى من حياة الطفل، وما فُقِد منها يصعب استدراكه، وأن الثلاث سنوات الأولى هي أسرع مدة لنمو عقل الطفل.
لن أنسى بالطبع كارثة القمع، وكأن السؤال جريمة، متناسين أن مع الصَّد المتكرر يكف الطفل عن السؤال ونحصل على إنسان جامد غير قادر على الإنتاج والابتكار والإبداع.
نشرت مجلة الصحة النفسية (Journal of mental health) عام 2005، في دراسة استغرقت عامين، أجريت لألف مشارك، بينت فيها أن الأشخاص الشغوفين بالمعرفة وحب الاستكشاف والسؤال ارتبطوا بنسب أقل من الإصابة بأمراض ارتفاع الضغط والسكري وغيرها، وفي دراسة أخرى في مجلة علم النفس الاجتماعي (Journal of social psychology) أن الطفل الشغوف بالسؤال يحقق نسبة أعلى في اختبارات الذكاء في مرحلة متقدمة من الطفولة، أما من الناحية الاجتماعية فقد وُجد أن الأطفال الشغوفين بالمعرفة والسؤال أنجح اجتماعياً وأكثر سعادة على المدى البعيد.
المحزن في الأمر أن الطفل في مرحلة ما قبل الدراسة يطرح أسئلته بمعدل 100 سؤال في اليوم، لكن مع بدايته في المرحلة الابتدائية يتناقص شيئاً فشيئاً حتى ينتهي به المطاف بتوقفه عن السؤال أصلاً، وهذا بسبب التعليم التقليدي العظيم في التفاهات أكثر من الأساسيات، الذي يعطي فقط إجابات جاهزة، غالباً ننساها بعد مرور 48 ساعة عن الامتحان.
ربما لو توقفنا للحظات ونظرنا في الأمر من زاوية أخرى سندرك أن طريقة التغيير الأولى والأكثر فاعلية هي في بداية رحلة الإنسان قبل بداية الرحلة نفسها، وأن السنوات الأولى من الرحلة تلعب دوراً محورياً ومصيرياً فيما تبقّى منها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.