حديث في المترو

تيقن جيَداً أن ما تشهدونه من تقدم وإنجازات هو وليد ما بناه أجدادي سابقاً، واعلم أن الحضارة العربية من أنضر الحضارات التي شهدها التاريخ وأثمرها، وذلك بعد أن صقلت أدمغة العرب بالعلوم التي ساهمت بازدهارها داخل وخارج حدود الجزيرة العربية وذلك خلال فترة قصيرة. صب العرب جامّ اهتمامهم ببناء المدارس وبناء الجامعات التي تشمل المختبرات، المراصد، والمكتبات الغنية بالكتب والمراجع.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/24 الساعة 02:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/24 الساعة 02:40 بتوقيت غرينتش

لم يعتد أبداً أن يتأمل في الوجوه، أو أن يدقق في ملامحها، فهي بالنسبة له مختلفة في تقاسيمها، متشابهة في اجتهادها وراء قوتها اليومي.

إلا أن موجة النزوح الهائلة التي شهدتها بلاده في الآونة الأخيرة دفعته إلى أن يعير اهتمامه لكافة الوجوه، وينتقي منها تلك التي لا يألفها، ويبدأ بالتدقيق بها وبتحركات أصحابها، محاولاً الوصول إلى استنتاجات تجيب على تساؤلات نشأت حديثاً في مخيلته، مستنداً إلى الأخبار المتواردة عنهم.

باتت محطة المترو من الأماكن المناسبة له لممارسة رياضة تأمل الوجوه والسعي وراء استخلاص النتائج، لكن محاولاته دائماً تقاد إلى طريق ذي باب موصد. وكيف له أن يجد الأجوبة وهو لا يقابل مخاوفه سوى بالأوهام دون المواجهة؟

شاء له القدر في ذلك اليوم أن يستقلّ المترو ويجلس مقابل فتاة، وبعد التفرس في ملامحها، وبناء على خبرته المتواضعة في علم الوجوه، اعتلاه شك بأن تكون من الذين يهددون الأمن القومي وسلامة البلاد.

التحديق المطوّل بها والفضولية الواضحة في عينيه أزعجاها، فتململت في مكانها، أغلقت الرواية بهدوء، نظرت إليه وسألته: "أهناك خطب ما؟ كيف يمكنني المساعدة؟" استجمع قواه وقال: "من أين أتيت؟ من أنت؟ أنت لا تنتمين إلى هنا؟"، ضحكت مجيبة: "أنا عربية، لا أنتمي إلى أرضكم، بل أنا لاجئة إليها"، قاطعها قائلاً: "ومتى تنتهي مسرحيتك تلك؟"، نظرت إليه باستغراب: "عفواً، أيَ مسرحية تلك التي تتكلم عنها؟"، أجابها: "توهمين الركاب بأنك تقرأين كتاباً أو تقومين بأي عمل عادي، قبل أن تحين اللحظة المناسبة للتلفظ بتلك الكلمات التي تسبق أعمالك التفجيرية التي سوف تحولنا إلى جثث سوداء".

"أي كلمات وأي أعمال تفجيرية تلك التي تتكلم عنها؟" ودون المبالاة بما قالته، أردف قائلاً: "كيف سمح لك أمن المطار بالدخول إلى هنا وأنت آتية من بلاد الإرهاب؟".

حديثه أضحكها، وبدأ صوت ضحكها يعلو تدريجياً كلّما توارد في ذهنها كلماته. ضحكت إلى أن اغرورقت عيناها بالدموع، ضحكت حتى رماها الركاب بسيوف نظراتهم، لكنها لم تأبه لهم، فهم لا يعرفون عمق الجرح، ولا يعرفون بأن نسبة له تتسع ابتسامتها ويعلو صوت ضحكاتها، أليس كل واحد منهم ملتفتاً إلى شؤونه الخاصة، ما بالهم بها؟ ضحكت لأن أرضها رازحة تحت وطأة حرب لم تستأذن بالدخول، بل خلعت باب الوطن، وبدأت بتعريته من حضاراته، تاريخه، شعبه وحيويته، إلى أن أمسى كصحراء يكسر عطشها خرير دماء الشهداء، وصوت نسيم يتجول بين الدمار باحثاً عن ناج قد نسيته العاصفة الهوجاء لعله يحمل بين ثنياته رائحة أنفاسه ويضعها بين أيادٍ أمينة، ورغم ذلك تتهم وأرضها بالإرهاب.

ضحكت لأنها انتزعت قسراً من بلادها، ولم تستطع الدفاع عن جذورها، بل استيقظت في تلك الساعة، ووجدت نفسها لاجئة عاجزة عن دس نبض وطنها ومداواة جروحه، بعد أن كان لها كأس الخمر الذي يشفيها من أشجانها.

ضحكت لأنها لا تعلم كيف تشرح لأعجمي تاريخاً لا يعي منه إلا من ليس منهم هو ضدهم، أو كيف تؤكد له أنه ليس إلا عنصراً من قطيع آخر مقتاد على الجهة الثانية للعبة السياسة. كم تفكيره ساذج، همست في نفسها.

نظرت إليه بعد أن التقطت أنفاسها فإذ به يحملق بوجهها متعجباً من برودة أعصابها فسألها: "لم أفهم لم هذا الضحك؟ الإرهاب ليس مزحة أو موضوعاً عادياً نتسامر من خلاله، إلا إذا كان كرغيفكم اليومي الذي تقتاتون منه".

غارت بنظرها عنه عائدة بذاكرتها إلى أهلها مردفةً: حين فارقت أبناء شعبي كانوا كالآلة، لا يرف لهم جفن مهما كانوا يلاقون من الألم، فالذل والإهانة والتهجير والموت والظلم والتنكيل أصبحت لهم الرغيف اليومي، أوتتهمونا بالإرهاب؟ أسمعت يوماً عن غلبة الضعيف للقوي؟ يا لسخرية القدر بتنا للإرهاب سوقاً ودولكم المروّجة له. ورغم ذلك تتنكرون لأفعالكم وتتهموننا بما نحن براء منه سيدي، إن العرب الذين تلفقونهم تهمة الإرهاب لَذوو أرشيف حافل بالإنجازات في مجالات عدة. عرب الأمس كانوا رواداً في العلم، والشعر والفلسفة والأدب، كما كانوا ملهمين لعلماء أعجميين أعجبوا بغنى وتنوع الحضارة والثقافة العربية التي كان لها رنينها الغناء في البلاد الأجنبية.

تيقن جيَداً أن ما تشهدونه من تقدم وإنجازات هو وليد ما بناه أجدادي سابقاً، واعلم أن الحضارة العربية من أنضر الحضارات التي شهدها التاريخ وأثمرها، وذلك بعد أن صقلت أدمغة العرب بالعلوم التي ساهمت بازدهارها داخل وخارج حدود الجزيرة العربية وذلك خلال فترة قصيرة. صب العرب جامّ اهتمامهم ببناء المدارس وبناء الجامعات التي تشمل المختبرات، المراصد، والمكتبات الغنية بالكتب والمراجع.

هل تعلم أن عدد هذه المكتبات بلغ السبعين في بلاد الأندلس؟ أسمعت جيداً؟ بلاد الأندلس، سيَدي! استطاع نفوذ العرب أن يمتد إلى خارج نطاق الشرق الأوسط والجزيرة العربية. أما اليوم، بالكاد يبسطون هيبتهم بين جدران منازلهم.

أين نحن اليوم من عرب الأمس الذين نقلوا علوم وآداب العالم إليهم، ونقلوا علومهم وآدابهم إلى العالم؟ فاستطاعوا بناء حضارة راقية ترتكز على أعمدة الحضارات السابقة.

ومن العوامل التي ساهمت بشروق نجم العرب في تلك الحقبة التاريخية هو توفر العناصر الأساسية والمحفزة على الاستمرار بالبحث من أجل التطور، وبالعناصر أعني التمويل المادي، فإمكانيات الدولة وضعت تحت تصرف العلماء ورجال الفكر، أما اليوم، ترى هذه الإمكانيات تصرف على بذخهم وترفهم وحياتهم الشخصية. لقد تحدر المستوى الفكري للدولة من العقل إلى الجهل.

إن شغف العرب بالعلم والمعرفة تعدى مرحلة تلقي العلوم من كتب ومجلَدات الآخرين، فوجدوا منهاجاً جديداً لتلقي المعرفة وهو "التجربة والترصد". أين نحن من مقولة العالم الشهير "هنبولد: "إن العرب ارتقوا في علومهم إلى هذه الدرجة التي كان يجهلها القدماء تقريباً"، ومن مقولة "مسيو سيديَو:" "إن أهم ما اتَصفت به مدرسة بغداد في البداءة هو روحها العلمية الصحيحة التي كانت سائدة لأعمالها، وكان استخراج المجهول من المعلوم، والتدقيق في الحوادث تدقيقاً مؤدياً إلى استنباط العلل من المعلولات، وعدم التسليم بما لا يثبت بغير التجربة".

أخذت نفساً عميقاً وأكملت تحدثه عمَا ألقاه أستاذها في محاضرة اليوم: أحب العرب، حكَاماُ كانوا أو محكومين، الشعر، ومثال على ذلك إقامة مؤتمرات أدبية في مدينة عكاظ، حيث كان الشعراء يلقون بأبياتهم أمام المستمعين، والقصيدة التي تنال إعجابهم، تكتب بالذهب على نسائج ثمينة، وتعلَق في الكعبة. وكما كان للشاعر القدرة على مدح حاكمه وتمجيد صورته أمام الحاشية، كان له القدرة على الحط من شأن سيده وإثارة الشعب ضده، فالشاعر هو سيَد الكلمة والموقف، والشعر حينذاك كان سلاحاً تهابه الدولة، إضافة إلى شعر المديح أو الهجاء، أخذ الشعر منحى آخر، فالفلاسفة والفلكيون والأطباء وغيرهم قاموا بنظم مؤلفاتهم، فأمست كتاباتهم قطعاً شعرية موزونة. توسع العرب في الرياضيات، وخاصة علم الجبر الذي استطاعوا تطبيقه على الهندسة، كما تمكنوا من حل المعادلات المكعَبة وغيرها من الأعمال الرياضيَة.

كانت بغداد والقاهرة والأندلس حاضنات لأهم مدارس الفلك، كما تمت ترجمة الكتب التي ألفها كل من إقليدس، أرشميدس وبطليموس والكتب الأخرى المتعلقة بعلمي الفلك والرياضيات، إضافة إلى ذلك، كان علماء الفلك يستدعون إلى البلاط الملكي، ومنهم "كوبلاي خان" الذي هو أخٌ لهولاكو، والذي نقل إلى الصين كتب علماء القاهرة وبغداد في علم الفلك. ومن هذه النقطة أعلمك سيدي أن العرب هم الذين نشروا علم الفلك في العالم كله.

كما كان لهم إنجازات في العلوم الجغرافية، الكيميائية، الفيزيائية، الطبيعية والطبية، إضافة إلى فن العمارة.

ويطول الكلام سيدي عن النهضة التي كان العرب روادها نتيجة انفتاحهم على الحضارات السابقة والانتفاع من علومها وذلك لبناء هوية عربية

وكما يقال إن لكل زمن دولة ورجالاً، والدولة العربية الموحدة اليوم أصبحت دويلات يحدها من الشرق والشمال السلاح وعن الغرب والجنوب الخداع.

أما الرجال فهم أشباه رجال عقيمو الفكر، وغرائزيو الطباع. أما الشعب فكتب عليه أن يكون ضحية الملاحم ثائراً كان أو ساكناً؛ لأن في كلتا الحالتين المؤامرة قد نسجت من جهة حكامكم، وحكامنا هم الأداة لتطبيق هذه المؤامرة. دولكم من مؤسسي الإرهاب بهدف رسم شرق أوسط جديد يستجيب لمصالحها، ويؤكد استمراريتها، ودولنا من المرحبين بهذا الإرهاب، غير عابئة بجغرافية الأرض التي أصابها الإعياء، وذلك بهدف البقاء على العرش المذهَب.

كان عرب الأمس يقودون الفتوحات، أما اليوم، فحكامنا يقودون الملاهي والمراقص ويقتادون إليها، والشعوب يتحملون مسؤولية أخطاء كبارهم ويقتادون إلى التخلي عن الرمق الأخير لتصحيح ما قد أفسده هؤلاء السكارى.

أنصحك بالتمعن الجيد في حال العالم، عسى ولعلَ تتضح الحقيقة لك وتبدأ ببناء فكر جديد بعيد عما غسلت به أدمغتكم.

لقد وصلت إلى محطتي وهنا أفارقك على أمل اللقاء المشرق بالعدل والحقيقة المحقة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد