إن لمبدأ الشك عند الفلاسفة بالغ الأثر في رحلتهم للوصول إلى اليقين؛ لأن الشك هو أول الطرق التي انتهجها أغلب الفلاسفة منذ بداية تبلور الفكر الفلسفي في تاريخ البشرية، بداية من أثينا ثم روما ثم الدولة الإسلامية بامتدادها من وسط آسيا وحتى الأندلس، ثم الفلسفة الغربية الأوروبية، خلال تلك الفترات المتباعدة، ويغلب على عقول الفلاسفة والمفكرين مبدأ الشك للوصول إلى الحكمة والحقيقة.
لم يكن الشك حكراً على الفلاسفة فحسب، بل هو خصيصة عقلية تتواجد بين البشر بنسب متفاوتة، حيث أعمل البشر مبدأ الشك في حياتهم منذ أقدم الأزمان للبحث عن الحقيقة، والكشف عن القوانين الموضوعية المنظِّمة للظواهر الطبيعية المحيطة بهم.
ومن هذا الاستنتاج البديهي نبحث عن بوادر ظهور مبدأ الشك في التراث الإنساني.
فنجد في الحضارات الشرقية القديمة الكثير من الإنتاجات الفكرية والحضارية التي تدل على وجود مبدأ الشك ضمن الأدوات الفكرية لأصحاب تلك الحضارات، ولكني توقفت عند نقطة هامة أثّرت بشكل كبير على تاريخ البشرية، وعند شخصية أثارت الكثير من الشك فأثارت حولها الكثير من الجدل، إنها شخصية النبي إبراهيم عليه السلام.
حسب الكثير من المراجع (1) فإن النبي إبراهيم وُلد في منطقة جنوب العراق في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وقد تختلف الفترة الزمنية بالزيادة أو النقصان، كما تضاربت التفاصيل عن نشأته وبعثته ورسالته، وتأسيسه لأسرة حملت رسالات عديدة للإنسانية؛ لذلك سمي "أبو الأنبياء"، وسأبني فكرة هذا المقال على قصتَين عن النبي إبراهيم ذُكرتا في القرآن الكريم؛ حيث أن لتلك القصص دلالةً كبيرةً على اعتماد النبي إبراهيم على مبدأ الشك للوصول إلى اليقين؛ القصة الأولى هي قصة بحثه عن الرب (2)، والثانية هي استفساره عن كيفية إحياء الموتى (3).
القصة الأولى عندما أُثيرت شكوك النبي إبراهيم للبحث عن منطقية وصحة عبادة آبائه ومدينته لآلهة على صور أصنام وتماثيل، فكان ذلك بمثابة بداية قصة فلسفية كبيرة كانت بدايتها الشك في الموروث وتحليله، فلم يجد لتساؤلاته أي إجابات مقنعة في الموروث الأدبي الخاص بتلك العقائد والآلهة، فأخذ بالبحث في الطبيعة عن إجابات لتساؤلاته، كما صورت لنا الآيات القرآنية، حتى اهتدى إلى الحقيقة واليقين.
وسواء كانت نتائجه النهائية تستند على أمور غيبية مثل وحي السماء، أو طبيعية وفطرية كوصوله لتصوّر ما عن القوة الخارقة المحركة للطبيعة، فإن نتائجه في تلك القضية كانت تشابه نتائج أعلام الفلسفة ومنهم أرسطو والفارابي وابن رشد وديكارت، وهم عظماء الفلسفة الذين امتدت فترات حياتهم لما يقارب الألفي عام، وامتد تأثيرهم حتى عصرنا الحالي.
أما القصة الثانية فهي قصة تساؤلاته للخالق الأعظم عن كيفية إحياء الموتى، والتي كانت نتيجة لاستمرار بحثه عن الحقيقة واليقين مستخدماً لمبدأ الشك.
وبعيداً عن الجدل الفقهي والتأويلات، فإن استخدام التجريد في تحليل آيات القرآن لما ذكر عن القصتين سيصل بنا الأمر إلى نتيجة، وهي أن النبي إبراهيم استند إلى الشك كمبدأ أساسي للوصول إلى الإيمان.
ولذلك فإن مدرسته التي أسسها كانت أكثر المدارس الفكرية التي لها تأثير على البشرية جميعها بعد رحلته الأولى للشك بما يقارب الأربعة آلاف عام.
والعجيب أيضاً أن كلَّ مَن يتحدث عن الأديان الإبراهيمية يصفها دائماً باستنادها وتبعيتها المحضة للغيبيات، ويتغافلون دائماً عن مبدأ الشك ومحاولات البحث عن الحقيقة والحكمة عند مؤسسها!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسألة مكان وزمان النبي إبراهيم من الأمور الخلافية، وغالبية الأقوال ترجّح ما ذكر في النص. انظر: بحث باسم (النبي إبراهيم في العراق بين التوراة والقرآن والآثار). العدد 1-2 من مجلة القادسية في الآداب والعلوم التربوية، للباحث محمد فهد حسين.
(2) ذُكرت قصة بحث النبي إبراهيم عن الرب العظيم في سورة الأنعام الآيات 76-78 كالآتي "فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ".
(3) ذكرت في سورة البقرة في الآية 260 قصة سأل فيها النبي إبراهيم ربه سبحانه عن كيفية إحياء الموتى. انظر: القرآن الكريم في الآية المذكورة.
(4) الفلسفة هي حب الحكمة حسب اللفظ اليوناني (فيلوسوفيا)، وتعرف الفلسفة بين المفكرين والفلاسفة بأنها العمليات العقلية التي يقوم بها العقل للبحث عن الحقيقة، كما ذكر الدكتور سليمان دنيا، في مقدمة كتاب تهافت الفلاسفة للفيلسوف أبي حامد الغزالي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.