“ميشيل فوكو” وسؤال السلطة حول الضوء القادم من الأعماق

على أي حال إن ما نكسبه بثبات وتأنّ وجهد حثيث يدوم طويلاً، ويجعل حياتنا أكثر غِنى، لذا فإن مَن يتحلى بإرادة الصبر والتسامح سيقدر حتماً على الانتصار على متاعب كانت تبدو عصية على الحل.. حينئذ يمكننا أن نحس في قراره أعماقنا بوجود شيء نبيل ومريح حتى إن الآخرين يحسون به أيضاً، ومن هنا يكمن السر وراء الصمت، فما هو ذلك الضوء القادم من الأعماق؟!

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/16 الساعة 02:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/16 الساعة 02:08 بتوقيت غرينتش

العلامة الحقيقية لذي العقل الرزين السامي هي صمته وتسامحه.. النحلة قبل أن تعثر على الزهرة وتتذوق الرحيق تصدر طنيناً عالياً، لكنها في اللحظة التي تتذوقها تصير مستغرقة وتكفّ عن إصدار أي صوت، وهذا هو حالنا قبل أن نجد الحقيقة نجادل ونتعارك ونتحدى الآخرين الذين يختلفون معنا، لكننا حين نتصل اتصالاً وثيقاً بما هو أعمق نصمت ولا نحاول أن نفرض آراءنا على الآخرين، إننا نحاول أن نعيش تلك اللحظة بحذافيرها، وعندما نحياها بالفعل فإنها حتماً تبلغ الآخرين، وتؤثر في حياتهم.

إننا لا نستطيع أن ندلف إلى العالم، ونتوقع أن نجد كل شيء كما يحلو لنا أن نتصوره أو نريده.. هناك العديد من الخيبات والأحداث غير المتوقعة (*)، لكن وعلى الرغم من كل المثيرات فنحن نقدر أن نخلص أنفسنا منها بأمان ورباطة جأش.. إذا ما كنا قد اكتسبنا موقف وعادة العقل الهادئ الثابت، وربما اعتقدت ذهنياً، أنه من الخطأ أن تغضب.. ومن الخطأ أن تتحدث بفظاظة، غير أن الكلمات تنطلق بدون توقّع ومن قبل أن تشعر حتى أنك تكلمت بخلاف ما كنت تقصد.

كما أننا نستطيع أن ننظم عقولنا بطريقة هادئة متناسقة، ونربط حياتنا بقوة أسمى فلا يعترينا بعد ذلك شيء من تلك الفورات، ولذلك فإن فكرة الصمت ليست مجرد اجتناب الفعل، إنها تعني جمع شتات قوانا المبعثرة والسيطرة عليها سيطرة تامة.

فطالما بقيت قلوبنا مضطربة وعقولنا مستثارة وأعصابنا متوترة، لن نتمكن من القدرة على الرؤية الواضحة، ولا على اتخاذ القرار الصائب، أما حين تحل لحظة الصمت فإننا نجد في أنفسنا ومضات من القدرة على الفهم تنير طريقنا.

على أي حال إن ما نكسبه بثبات وتأنّ وجهد حثيث يدوم طويلاً، ويجعل حياتنا أكثر غِنى، لذا فإن مَن يتحلى بإرادة الصبر والتسامح سيقدر حتماً على الانتصار على متاعب كانت تبدو عصية على الحل.. حينئذ يمكننا أن نحس في قراره أعماقنا بوجود شيء نبيل ومريح حتى إن الآخرين يحسون به أيضاً، ومن هنا يكمن السر وراء الصمت، فما هو ذلك الضوء القادم من الأعماق؟!

(*) ثمة تصور شديد الرواج عن فوكو بأنّه فيما يخصّ مسألة السّلطة عدميّ إلى حدّ كبير.

ذلك أنّ فوكو، المُكرَّس كمنقضٍّ على هذه السلطة كاشفاً أغوارها، يوصف أن السلطة "مُبنْينة" في العالم المعاصر، بحيث يغدو كل إفلاتٍ منها هو وقوع في أسرها بشكل أو بآخر. وهذا يجرّنا للتساؤل عن عمل حركات مقاومة السّلطة هذه.

هل الضحيّة ستصبح جلاداً في المستقبل؟ وهل مقاوم السلطة هو، بنهاية المطاف، سلطويّ جديد، أو، على الأقلّ، سينشئ "سلطة مضادة"؟ هنا، تحديداً، تكمن المشكلة الفوكويّة.

فمن الدولة السلطويّة إلى الدولة الرعويّة، وصّف فوكو تقنيات استعمال القوة والسّلطة، وميكانزمات السيادة في ضبْط (discipline) الذات الحديثة وما بعد الحديثة.

وخلافاً للطرح القائم فقط على تشريح بنية الدولة في عنفها الماديّ الشمولانيّ، انتقل فوكو إلى تصور أكثر تطوريّة لتصوير عمل الدولة بما هي جهاز بيوسياسيّ؛ جهاز يحدّد إنتاجيّة الذات لا من حيث الماديّ فحسب، بل النسليّ والبيولوجيّ والطعاميّ (ماذا يأكل العمّال لينتجوا، ويتناسلوا، وماذا يجب ألّا يأكلوا ويشربوا.. إلخ).

ولأنّ فوكو ليس فيلسوفاً بالمعنى التقتيّ للكلمة، أي أنّه لا يحدد ما يجب ممّا لا يجب، فهو مؤرخ للبِنى على مدار تاريخه وللإبستيمات التشغيليّة للفكر، أي أن مدار عمله بالأحرى هو نزع السحر عن الحداثة، وفهم المشروع الحديث الذي يُصدّر على أنّه انبثاق على حين غفلةٍ؛ لذا فإن فوكو توصيفيّ، بقدر ما هو إرشاديّ، وهنا نيتشويّته تحديداً.

والحال أنّ هذا التصور للسلطة بما هي كليانيّة، وتهيكل كافّة شروط الحياة المعيشة، إنّما يقوض عمل الحركات المناهضة لها بصورة أو بأخرى إذا جردنا فوكو نظريّاً.

كان هذا هو الاعتراض الماركسيّ الدائم مع فوكو، بل حتى ما بعد الكولونياليّ والذي أثاره سعيد بشدّة في "الثقافة والإمبرياليّة" عندما قارن بين عملِ كلٍّ من فوكو وفرانز فانون، ومردوديّة ذلك على الذات التي تكافح للتحرر (لا شكّ أن سعيداً كان محقاً، لا سيّما وهناك إغفال فوكويّ متعمّد للعالم الثالث والنضالات فيه)، ولأنّه لا يعتمد الطبقة كمقولة تحليلّة أساسيّة، بل يراها ضرباً من دوغمائيّة ماركسيّة، يقع فوكو في صلب ميتافيزيقا السّلطة التي يوصّفها، وتكمن ميتافيزيقيّتها في أنّها لا تُقاوَم، مع الاتفاق التام مع فوكو بكونها موجودة وعاملة عملها بجلاء.

لكن كيف يمكن مقاومتها، والمقاومون نفسهم سيغدون، عمّا قريب، سلطويين كالذين خلعوهم؟

ها هنا تحديداً يأتي دور فوكو في مشاركته في ثورات مايو/أيار 1968، وهي، بطبيعة الحال، ملائمة لفكر كهذا.

ثورات بلا قيادة ولا مطلب، ولذا، كان ألتوسير محقاً برأيي عندما اعتبرها ثورة "مهرجين". وهذه المكانة الامتيازيّة لثورات الـ68 في التاريخ الفرنسيّ مبالغٌ فيها لا شكّ من قبل التاريخ ما بعد الحداثيّ، لا تقعوا في غرام السّلطة"، نصحنا فوكو.

لكن أيضاً ما لم ينصحنا به هو أنّه يجب علينا ألّا نقع في غرام شبحها، فنركن إلى عدم مقاومتها، "أنا لست نبياً لأقول لكم افعلوا هذا ولا تفعلوا ذاك"، نعم يا فوكو.

لكنّ السلطة ليست بحاجة لنبوءةٍ كي نقاومها، حتى ولو تمخّضت سلطة أخرى عن المقاومة، فالمقاومة هي الأبديّة في وجه السلطويّات المحتملة، والتي، كما علمتنا، إذا ألقيناها من الباب، ستأتينا من النافذة…

* للتأمل:
– في كولومبيا نكتة قديمة أو قول مأثور فحواه أن أحد ضباط الجيش يسأل ضابطاً آخر أُحيل إلى التقاعد: "ما العمل الذي تعتزم القيام به الآن، بعد أن أصبحت متقاعداً؟ يعقد الضابط الآخر حاجبَيه دهشةً ويجيب: أتآمر بالطبع أيها الرجل.
جاك ووديز – الجيوش والسياسة

– "إنّ فوكو هو أوّل مَن ابتكر المفهوم الجديد للسلطة…".
(جيل دولوز – Gilles Deleuze).

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد