شخصية هارون الرشيد في كتب التاريخ تعتبر من الشخصيات الجدلية والمتناقضة.. كان الرجل ينطلق في العبادة فلا يتوقف، يصوم الدهر ويحج الشهر، ويقيم الليل حتى مطلع الشمس.
وكان إذا انطلق في الملذات أيضاً لا يتوقف، يكثر شرب الخمر، ورفقة الجواري الحسان.
بتوقف أمام هذه المعلومة كي أفهم.. هل كان الخليفة الكبير مصاباً بمرض اضطراب ثنائي القطب، bipolar أو الهوس الاكتئابي، وهو الذي يجعل صاحبه ذا مزاج متقلب وحاد ومتناقض، بين الإقبال المفرط على الحياة أو الخروج الكامل منها.
صاحب المرض عندما يكون مبتهجاً، تجده مثالياً، كريماً، متطهراً، مفرط العطاء والبذل حد الطيش، وفي نزعاته الاكتئابية تجده هامداً منسحباً قاتماً بلا روح.
عندما تقرأ بعض آيات القرآن تجدها تسعى لتجنب هذا النوع من الهوس، وخلق شخصيات متوازنة، متوسطة المزاج غير مسارعة إلى الجنوح أو التطرف في جانب عن الآخر.. يركز الله مثلاً على فكرة عدم ارتباط مشاعر الإنسان ومزاجه وحالته النفسية بمعطيات مادية مباشرة، أو خسائر فائتة. يقول: (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) الآية تخلق فكرة عدم الانطلاق في الأسى والحزن والحسرة على ما فات الإنسان، وعدم الانطلاق في الفرح والمبالغة في الغرور والثقة لعطاء ما.
وفكرة (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) بمعنى لو كنت في مواجهة وتعرضت لإصابات بالغة وألم، فاعلم أن ذلك طبيعة الحياة، وأن الألم يصيب الجميع، المنتصر والخاسر، من على حق ومن على ضلالة، يجعلك مؤهلاً لتحمل هذا الألم دون فزع أو هلع أو مبالغة في الشكوى، وتركز على فكرة أنك ترجو من وراء الألم حالة روحية أعلى وأنقى.
وفكرة (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس)؛ كي لا يخلق شخصية هستيرية قصيرة النفس، ويكون الأجر الحقيقي في تحجيم تحركات الإنسان الطائشة وقت الضغوط والأزمات، والحفاظ على حالة إيمانية متزنة رغم كل الظروف.
وفكرة (ولا تمشِ في الأرض مرحاً إنك لا تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً)، وعلى النقيض (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) لا تصاب بحالة فوران تبلغ بك حد الإحساس الفائق بالقوة والسطوة والتأبيد، وعلى النقيض لو أصابك الوهن والضعف وسوء الحال لا تسقط في الأسى واليأس.
كمان كتير من قصص القرآن تخلق حالة من تقبّل الأقدار وصعاب الحياة وعدم مثالية بعض المراحل، واتساع العقل لاستيعاب المفارقات المرهقة.. سيدنا موسى الرضيع الذي يصير هادماً لأسطورة فرعون يتربى في بيته (يا سلام!) يعني ربنا ما لقاش غير عدوه عشان هو اللي يربيه! ما كان ربنا يودعه عند أحد العباد الصالحين الأنقياء الذين يعكفون على تنشئة الفتى الذي يصير أسطورة المستقبل! ثم، هل فرعون قادر على تنشئة نبي؟! ألن يفسده؟ الحقيقة أنه دنيوياً ربنا ما لقاش أحسن من فرعون كي ينشئ الولد.. هياكل ويلبس ويتعلم ويتحمل المسؤولية وياخد طباع الملوك والنبلاء في جانبها الإيجابي، الشهامة والنجدة وقوة التحمل، وتظل لمسة الهداية معلقة بيد الله.
ما تخافش على ابنك حتى لو كان بين إيد عدوك.. ربك وحده اللي عارف الخير فين.
ثم، موسى النبي الكريم الذي جاء بحرمة الدم وعصمة النفس البشرية هو أول مَن يقع في جريمة قتل خطأ.. منتهى التناقض.. لكن عادي! لا أحد كبير على الخطأ.. وحامل تعاليم التقوى والهدى هو أول مَن يحتاج إلى تطبيقها على نفسه، ولا يجب اغتيال شخص بعمل فردي.
سيدنا إبراهيم الذي خاض حروباً طويلة ضد الوثنية يقع في أزمة شخصية داخل بيته.. شجار وغيرة وتفسّخ أسري تسببت فيه زوجته الأولى بعدم تقبلها لزيجته الثانية، يعني مش كان ربنا يهدي له حاله ويهدي له سرّ بيته ويصلح له نفوس زوجتيه فتعيشا متآلفتين في سلام ووداد! لا يا سيدي.. الأنبياء بتعاني برضو أشد المعاناة.
سيدنا محمد رمز التوحيد أعمامه يكونون رمز الوثنية.
سيدنا نوح ابنه مشرك، ولوط، زوجته خانت سره، ويونس ضاق صدره بإعراض قومه، وكان سريع الغضب، فعاقبه الله على تسرعه وضيق خلقه عقاباً شديداً بأن ألقي في البحر.
باختصار كل قصص القرآن هي قصص غير مثالية.. تعود الإنسان على الثبات والصبر وقبول الحياة بكل ما فيها والرضا بتصاريف الأقدار والتعامل مع أشد لحظات الاستفزاز والإحباط والألم والخذلان بمحاولة إنقاذ ما تستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وكل الآيات دي وغيرها عبارة عن معالجة نفسية للإنسان؛ كي لا يصاب باضطرابات مزاجية وسلوكية ونفسية من صنع يده، ولكي يكافح حتى يخرج منها لو كانت من قدره.
وجهة نظري إن كتير من حالات التدين في داعش وتنظيم القاعدة والتنظيمات الإرهابية قائمة على اضطرابات نفسية لا غير؛ إما شعور مبالغ فيه بالذنب يريد الإنسان الانهماك في حالة تطهرية معاكسة كي يهرب من عذاباته، وإما شخصية حادة ومتقلبة وعصابية لا تجيد المزاج المتوسط المعتدل الذي يراوح بين الصواب والخطأ (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ).
دي ناس بتغلط عادي، مش مثاليين، لكن بتفوق بسرعة، بتحس بنفسها بدري، عندها ترموميتر شخصي بينور قدامهم، على عكس الذي ينطلق في الشر والفساد والسيئات بلا توقف، ثم يستفيقون في أوقات متأخرة ربما بعد أن فقدت الملذات طعمها.. ودا بنشوفه في بعض هؤلاء المتدينين، قادمين من أسفل وأحط الصفات والأفعال الإنسانية، التي تواصلت معهم لسنين، حتى ماتت قلوبهم وضمائرهم.. ودخلوا إلى حالات التدين بهذا القلب الغليظ وتلك الضمائر الميتة، فيلبسون لباس التدين ويقيمون الشعائر، بينما يقبع خلف هذا المنظر وحوش كامنة قادرة على الكراهية والبطش والازدواجية.
فيه ناس مش بتقدر تفهم الحياة غير شر مطلق.. خطيئة ومعصية وفجور وظلم.. وتصالح كامل مع هذه الحالة، أو خير مطلق، عبادة وعطاء وطقوس.. الناس دي مصيبة. والطريقة دي بيحاول القرآن تلافيها بتقديم الأمثلة السابقة.
حالتك النفسية ومزاجك وطريقة تعاملك مع نفسك ومع الحياة من اعتدال وحكمة وهدوء أو تطرف وحماقة وعصبية هي جزء من تدينك وإيمانك بالله.
العبد الصالح يجب أن يكون في البداية إنساناً صالحاً، والعكس صحيح.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.