حركة التحرر العربية.. أسئلة التراجع والنهوض

إن الإشكالية الأساسية في واقعنا العربي الراهن تكمن في الفراغ، فراغ فكري ومعرفي وحضاري؛ إذ لا يوجد مشروع للأنظمة السياسية القائمة ولا للقوى الوطنية على حد سواء، ولا للمعارضات أيضاً التي يقتصر دورها في إعلان الرفض، ترفض ما هو قائم، وترفض أي قادم، وترفض المبادرات المختلفة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/13 الساعة 04:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/13 الساعة 04:02 بتوقيت غرينتش

إن تفقدت بموضوعية وأمانة فكرية دور ومكانة قوى حركة التحرر الوطني العربية خلال ما يقارب العقود الأربعة الماضية، تكشف عن إفلاس فكري وسياسي وثقافي، وعجز حتى الشلل.

ولن تجد من تلك القوى منفردة ومجتمعة سوى شعارات غوغائية باهتة، لم تعُد تنطلي على أي مواطن بسيط من الشارع العربي.

سوف تجد قوى وأحزاباً باتت فاقدة الأهلية الوطنية في الدفاع عن مصالح الشعوب العربية؛ لأنها أصبحت أسيرة سياسات الأنظمة العربية البوليسية والثيوقراطية، ليس هذا فحسب، بل إنها أصبحت جزءاً من عملية التشرذم والانقسام الديني والطائفي والمذهبي في المنطقة.

وحتى مؤتمراتها بمستوياتها المحلية والعربية، لم تعُد تحمل أية دلالة بالنهوض، وإنما تحمل معنى واحداً يتمثل في المزيد من تصلب الشرايين الذي سوف يؤدي إلى الموت الإكلينيكي والتحنط؛ لأنها تلوك ذات البرامج الفاشلة، وتنتج ذات القيادات، وتكرر نفس الخطاب بلغته الحطبية، تراها وهي تحاول تعيد إنتاج نفسها، أشبه بالعجوز المتصابية التي لا ينفع مع فسادها عطّار.

هذا لا يعني بالضرورة أن موت حركة التحرر العربية قدر محتوم، وأنه آن الأوان لإعلان وفاتها وتشييعها، ولكن كيف نستطيع إيجاد الرافعة السياسية والاقتصادية والثقافية، وبلورة مرجعية فكرية وتحويلها إلى مرجعية شعبية، تستطيع تحشيد وتوحيد جهود كافة شرائح المجتمعات العربية، ووضعها أمام التحديات الكبيرة التي تواجه العرب في الألفية الثالثة.

إن الإشكالية الأساسية في واقعنا العربي الراهن تكمن في الفراغ، فراغ فكري ومعرفي وحضاري؛ إذ لا يوجد مشروع للأنظمة السياسية القائمة ولا للقوى الوطنية على حد سواء، ولا للمعارضات أيضاً التي يقتصر دورها في إعلان الرفض، ترفض ما هو قائم، وترفض أي قادم، وترفض المبادرات المختلفة.

يزداد الوضع سوءاً حين مقاربة المشكلة العربية بدخول البشرية مرحلة الثورة التكنولوجية، والموقف العربي لا يزال يتراوح بين الخوف والتهميش وافتقاد الرؤية والبرنامج.

كما يترافق عجزنا مع الشكل الجديد للعولمة التي من أبرز سماتها توحيد الاقتصاد والسياسة، أو ما يطلق عليه "إمبراطورية العولمة"، وهذا ما تحاول حضارات شرقية مثل الصين واليابان والهند وبعض الدول الأوروبية تطويرها وتغييرها إلى شعار "العولمة الإنسانية".

أضف إلى ذلك النظام الدولي الجديد قيد الإنشاء؛ إذ يطل على المنطقة العربية بصفتها "رجل العالم المريض"، الذي يهدد العالم بسبب الإرهاب والانفجارات الديموغرافية والفقر والاستبداد ويشكل خطراً على الأمن العالمي ولا بد من إخضاعه وإدماجه عبر مبادرة "الشرق الأوسط الكبير"، ولن تتراجع القوى الغربية عن هذا الهدف حتى لو أخضع مشروع الإدماج بالقوة عبر تحويل الحلف الأطلسي إلى شرطي العالم العربي.

لقد أثبتت كافة التطورات التي شهدتها المنطقة العربية خلال أكثر من ستين عاماً، أي خلال ما بعد نيل الدول العربية استقلالها السياسي عجز الدولة – الأمة (القطرية) ونظامها الإقليمي عن مواجهة التحديات الجدية، فلا قدرة لهما على بناء الدولة "الأمة" القطرية المتطابقة مع الدولة القطرية، في زمن بدأ مفهوم الدولة – الأمة ينهار، كما يفتقدان القدرة على حماية شعوبهما من مخاطر التهميش الاقتصادي والتفكك السياسي والاستعباد الاستعماري، وافتقاد القدرة على بلورة عمل عربي مشترك ومستقل قادر على فرض الإرادة العربية.

وتطل إلى جانب ذلك أزمات المجتمع العربي القطري ومن أبرزها سلطة الاستبداد التي أدت إلى انقسام المجتمع على أسس مذهبية وطائفية وقبلية، علاوة على بروز الإسلام السياسي المنقسم ما بين شيعي وسني إضافة إلى التفتيت والتمذهبات الخطيرة غير القادرة على طرح مشروع نهضوي – وحدوي – وسياسي أضِف إليها انعدام أي برنامج لتحرير الإنسان العربي وإطلاق حرياته وحقوقه وإمكاناته الإبداعية والاقتصادية، ناهيك عن الاعتراف بحقوق المرأة.

وبرز وجهان آخران للمشكلة لا يمكن القفز فوقهما؛ الأول غياب عنصري العقل والحرية في الاجتماع العربي والثقافة العربية والحاجة الماسة لتحرير العقل العربي عبر تضييق مساحة المقدسات والأيديولوجيات المغلقة، وإطلاق عصر أنوار عربي جديد، والثانية، حال الإحباط والاكتئاب الجماعيين، وخصوصاً عند الشباب، ما يستوجب إحياء الأمل بالغد وبعث التفاؤل بإمكان التغيير.

نحن أحوج ما نكون إلى طرح العديد من الأسئلة التي تفتح مغاليق الواقع من أجل التفكير بإمكان تحقيق الحلم الرومانسي الواقعي للشعوب العربية فيها، وهي ما إذا كانت الدولة القطرية الحالية قادرة على التنمية بشكل مستقل؟ وهل هي قادرة على الدفاع عن الاجتياح وحماية الشعب؟ أو قادرة على إنقاذنا من الفقر والتخلف؟ أو ستساعدنا على إمكان ولوج عصر الحداثة وما بعدها؟
كل هذه الأسئلة لا شك تدعو للتفكير بصوت عالٍ وتتطلب تغييراً جذرياً في منهجية التفكير.

إذا كان هذا حال معظم الدول العربية من البؤس والشقاء والتبعية، فما البرنامج الذي يشكل استجابة للتحديات التي تواجه أمتنا العربية وشعوب المنطقة في الألفية الثالثة، لتحقيق تطلعاتها الحالمة بإشراك الأمة في الثورة التكنولوجية، ومقاومة العولمة المتوحشة، والانتقال إلى وضع تكون فيه الأمة مؤثرة على النظام الدولي خلال لحظات تشكله الحاسمة، والخارجة من ورطة الدول – الأمم وحروبها الأهلية، والقادرة على إنقاذ المجتمعات العربية من الانقسامات ما بعد الحداثة المدمرة.

هل هناك وصفة سحرية للخروج من هذا المأزق؟ بالطبع لا، لكن البدء في إيجاد حلول يكمن في إعادة ترتيب الأولويات الفكرية وأساسها السياسي؛ حيث تجديد الفكرة العربية وتنقيتها من الشوائب التي لحقت بها جراء الفكر القومي، الذي أثبت أنه فاشي واستبدادي وديكتاتوري وحالم وخيالي وأسطوري، وتقدير قوة الهوية العربية وتجذر وحدة المشاعر العربية، فالثورة الفكرية تتطلب ثورة في النظرية على الصعيد السياسي من دون الاضطرار إلى الاعتماد على الأسطورة أو المدمرة، وذلك اعتماداً على المجتمعات المدنية العربية؛ إذ تكتشف الطريق إلى مواجهة الفقر والتهميش عبر الاستخدام الأمثل للطاقات والثروات العربية، ووضعها في خدمة خطط التنمية والتطويرات العلمية والتكنولوجية.

وكذلك العمل على تخطّي مخاطر الحروب الأهلية ومآزق الدول القطرية العربية والانتقال إلى حال الفعل السياسي والإبداع الثقافي، والمساهمة الفكرية والعلمية في إنتاج النظام العالمي الجديد، وإنقاذ الشعوب العربية الصغيرة منها والثروات العربية كذلك من عمليات الإلحاق والهيمنة، وتحويل فكرة العروبة الديمقراطية إلى نظام سياسي ديمقراطي عربي يحقق العدالة والمساواة للجميع، وإعادة صياغة قضية فلسطين بصورة جديدة، وبلورة حل عربي عادل للشعب الفلسطيني خارج إطار المشروع الاستسلامي، وإعادة الاعتبار لمفاهيم الكرامة العربية والسيادة والاستقلال العربي بعيداً عن الفكر "الواقعي" الانهزامي الداعي لقبول إملاءات القوة الإمبراطورية الأميركية.

من غير تحليل علمي وموضوعي وصادق لأسباب الهزيمة ومسبباتها، وإن لم نعلم لماذا خسر القوميون والماركسيون معركة التنمية والتطور؟ ولماذا غابت وغيبت حركة التحرر العربي عن المشهد طوال نصف قرن؟ ولماذا لم تتمكن الدولة الوطنية من إنجاز مهامها في الاستقلال الاقتصادي وتحقيق التنمية لشعوبها؟ فإن ذلك يعني الاستمرار في هذا الوضع الخطير المهدد للكيانات وللدول، ويؤدي إلى انفراط الوحدة القطرية وانتصار أصحاب الكيانات العصبوية.

ومن شأن ذلك تحويل الدول العربية إلى كيانات طائفية ومذهبية متصارعة، وهذه الحالة السوداوية سيناريو يحمل قابلية التطبيق في عدد من الدول العربية.

"سايكس بيكو" جديدة يتم تداول تفاصيلها في الغرف السوداء، لرسم ملامح خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط لن يفلت من أذيتها أحد، ما لم تتصالح النظم السياسية مع شعوبها، ولم تشفَ حركة التحرر العربية من حالة الموت السريري.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد