لم أكن أتخيّل يومًا أنني سأتورط في حُب بلد من مُجرد "كلمة" أو حتى "فيديو" على اليوتيوب، شاهدته في استراحة سريعة، وكان درسًا بسيطًا عن الأرقام باللغة المالطية، شاهدته مرّة واثنتين ولم أصدق نفسي.. قرأت الكثير والكثير ولكنني لم أصدق أن هناك شعب يتكلم هكذا لغة، ثلاثة أرباعها عربيّة، وبعد حوالي ستّة أشهر وصلتها!
مع أن مالطا من بلاد الاتحاد الأوروبي، إلا أنها متواضعة جدًا إذا ما قُورنت ببلاد الشمال، مثل ألمانيا وفرنسا والدنمارك.. ومع ذلك أحببتها لبساطة أهلها وطبيعتها البحريّة والأكيد "لغتها" العجيبة وكان يكفي أن أرى قُصاصة ورق يُوزعونها في المطار ومكتوب عليها: " كيف إنت" بالأحرف الإنجليزية، وهي من أهم عشرة عبارات مالطية يُنصح السائح بتعلمها، وجوابها "مش حزين" التي يقصد بها "جيّد"، بل إنه من المستحيل أن تمر في شارع دُون أن تجد لافتة عليها "طريق…" ثم لا يُستبعد أن تجد في الطرقات مُلصق على بيت من بيوتهم " ترميش الزبل هون" ولكن بالحروف اللاتينية!
الأكيد أن المُطالعة شيء، والسماع والمُحادثة شيء آخر تمامًا، أجمل بكثير من الفيديوهات التي توهمنا أن بإمكاننا أن نتعلم المالطيّة في نصف ساعة، وهي مسألة شبه مستحيلة، ولكن الحقيقي والأكيد، بل وما عشته بنفسي في جزيرة "غودش" المالطيّة حين تقدّمت لبائع لطيف، فقلت: "مرحبا" فردّ: "مرحبا"، فقلت: "كيف إنت" فقال: "مش حزين" وهو مُبتسم.. ثم قُلت: "نريدو فطيرة بالتونة" فحمل ساندويشة وأعطاني إياها، ثم قلت: "كيف يسوى؟" فقال: "سبعطاش" كما نقولها في فلسطين ولكن مع تخفيف حرف العين بشكل شديد، تمامًا كما أنهم لا يلفظون حرف الحاء الذي يُلفظ كما الهاء، وهكذا فيُمكن أن نقول كُل تلك المحادثة كانت باللغة المالطية مع أنه لم يدخل في كلامنا إلا كلمة واحدة أعجمية هي كلمة "جراتسي" الإيطالية والتي تعني "شُكرًا"!
هذا كُله، لا يعني أن المالطية كُلها عربيّة، بل هي خليط من الإيطالية والإنجليزية والعربية، ولكن المُشكلة في الكلمات التي يُمكن أن تكون من أصول عربيّة، فإنهم يلفظوها أحيانًا بشكل يجعلك تتخيلها إيطاليّة، ولهذا فإن تعلم المالطيّة يحتاج وقتًا، وقد أخبرني أحد الفلسطينيين المقيمين هناك، أن العربي يحتاج 3 أشهر كي يُتقن المالطيّة، ولكن هذا بالطبع لا يمنع العربي من أن يفهم الكثير الكثير من اللغة المالطيّة، ولأن الأمر "فاتن" بالنسبة لمن يعشق اللغات وتعلمها، فإنني لم أستطع أن أعود من مالطا قبل أن أشتري كتابًا عن الأمثال الشعبيّة المالطية وفي هذا وجدت الكثير من "الدهشة" حيث هناك أمثال شعبية، لا يُمكن لعربّي ألّا يفهمها!
الكثير من الأمثال الشعبية تؤكد أن المالطية أقرب ما تكون إلى اللهجة التونسيّة العربية، مثل قولهم "عِين روحك بِشْ الله يعينك" أو قولهم "من يرقد بالجوع يحلم بالفطاير" أو "تعملش صلصلة قبل ما تقبض الحوت"، فالحوت لا يُعنى به هنا إلا السمكة، كم أن استخدام أفعال مثل "تقبض" بدلًا من "تصطاد" أو "يرقد" بدلًا من "ينام" هي من أساسيّات اللهجة التونسية.
بالإضافة إلى هذه، فإن هناك أمثال نستخدمها في بلادنا بكثرة، ومنها "العجلة من الشيطان" أو قولهم "المكتوب مهوش مهروب" ويُقابله في فلسطين: "المكتوب مفيش منه مهروب" ثم هناك "أخير عصفور في يدك من ميه في Air (الجو)" وهو بالضبط كما "عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة"، وكذلك قولهم "الشمس ما تتغطاش بالغربال"، وهي أمثال يُمكن فهمها ببساطة إذا ما كُتبت بالحروف العربية، بيد أنها قد تبدو معقدة جدًا للوهلة الأولى إذا ما قُرأت بالحروف اللاتينية فحرف الشين يُكتب X، أما العين فتكتب "gh" ولا يُلفظ غالبًا، وأما "الإتش" فيُكتَب كحرف c وفوقه نقطة، كما أن حرف q يُلفظ كهمزة غالبًا.
"كُل حد مرقته وفتيته Kulhadd merqtu u ftietu" هو كذلك من الأمثال المالطية التي كانت تُجبرني أن أشعر بشيء مُختلف تمامًا تجاه هذه الجزيرة ولغة أهلها، مهما حاول البعض أن يؤكد بأن المالطية لا علاقة لها بالعربية، فمن يقصد مخبزًا في مالطا يكاد يستحيل أن لا يجد فيها حلوى "المقروطة" التي يُسمونها "إمقاريط" ويلفظون القاف همزة كحال أهل المُدن في بلاد الشام، كما أن أكثر مطاعم مالطا تُقدم وجبات مع أسماء عربية أو شبه عربية مثل "خُبزة بالزيت" أو "سوبّا تاع الأرملة" أي "مرقة الأرملة"، ثم إنني لم أرَ كُشكًا في مالطا لا يبيع "فطيرة بالتونة" وهي من ألذ وأشهر الوجبات السريعة عندهم، ولا أخفي أنها إلى جانب وجبة الأرانب المالطية جعلتني اُحب هذه الجزيرة أكثر!
هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة مدونات
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.