في المقالة السابقة توقفنا عند لحظة قيام الثورة في رومانيا وإعدام تشاوشيسكو وزوجته، ونستكمل من هنا، فبعد هذا الإعدام تقوم الأجهزة الأمنية التي تريد المحافظة على مصالحها الشخصية بخلق سيناريوهات إرهاب وهمية من أجل نشر الخوف في قلب الشعب، فيقومون بمُهاجمة مبنى الإذاعة والتليفزيون والجامعات والكثير من الأماكن الحساسة في البلد، وذلك من أجل تشويه مفهوم الثورة في أعين الفقراء، ومن أجل أن يمهّدوا الطريق لجبهة تحافظ على مصالحهم وتُسيطر على البلد بقبضة من حديد، ولاحظ هنا فكرة القبضة من حديد، الفكرة التي تسيطر على كل ديكتاتوريي العالم.
ولا نعرف هل هو الغباء الذي يسيطر على الإنسان والذي يدفعه دفعاً لإعادة إنتاج المواقف التاريخية أم هو سوء الحظ الذى ينتج عنه هذا التشابه؟
ومن سخرية القدر أن الجبهة التي تكونت في رومانيا سميت "جبهة الإنقاذ الوطنى" وهؤلاء كانوا من الجيل الثاني من الشيوعيين الذين كان يتزعمهم حينها "إيون إيليسكو" أحد رجال الديكتاتور المخلوع تشاوشيسكو، كان رجلاً يحمل نكهة الثورة، وأنه ولمن المدهش أننا حتى لم نكلف أنفسنا عناء تغيير الأسماء.
سيطرت جبهة الإنقاذ الوطني على وسائل الإعلام الرسمية وقامت بعمل دعاية مُضادة لخصومهما السياسيين، وإيون سعى لتحجيم الثورة وحصارها وأطلق العنان لفلول النظام البائد، وبدأ بالجيش وعقد صفقات مع جنرالاته وبعدها قام بالسيطرة على الإعلام، قام إيون إيليسكو باسترجاع نظام الديكتاتور المخلوع تشاوتشيسكو بالكامل ويمكن أسوأ منه.
إيون قام بإعادة جميع رجاله للساحة السياسية من خلال عقد صفقات معهم، وتولت جبهة الإنقاذ الحكم بصورة مؤقتة لحين موعد الانتخابات، وقامت الجبهة بمحاكمة وسجن بعض رموز النظام القديم من المقربين من تشاوتشيسكو.
وهنا يجيء دور شباب رومانيا الثوري الذي يقرر النهوض وعدم الاكتفاء بالصمت، فتقوم المُظاهرات وتضرب الاعتصامات من جديد أرجاء البلد، لجأ إيليسكو للإعلام، ويجب هنا أن نلحظ دور الإعلام الرهيب في التشكيك في شباب رومانيا الثائر واتهامهم بالعمالة للخارج وتلقّي التمويل من الجهات الخارجية بهدف زعزعة استقرار البلاد، ويبدأ في مُحاكماتهم مُحاكمات عاجلة وينكل بكل مُعارضيه بحجة العمل على زعزعة استقرار البلاد، وأوهم الشعب البسيط بأنه هو الوحيد القادر على أنه يقوم بإيصال رومانيا لبر الأمان ويحمي البلد من الخطر الخارجي والمؤامرات.. ويحضرني هنا القول الخالد: "اسمعوا كلامي، كلامي أنا بس"، وينجح إيليسكو في التأثير على الشعب البسيط، فيتعاونوا معه ويبدأوا في مُهاجمة شباب رومانيا الثائر.
وعندما زادت المواجهات واشتعلت، استعان إيليسكو بآلاف العمّال من المناجم وصور لهم أن شباب رومانيا هم خونة وعملاء ونيتهم هي تخريب البلد؛ ليقوم بجلبهم وشحنهم في شاحنات إلى العاصمة بوخارست، ويقوم بتزويدهم بالأسلحة ويقوم العمال بمهاجمة الطلبة لمدة يومين متواصلين، مما يسفر عن وقوع المئات من القتلى وآلاف الجرحى.
ورغم إعلان الجبهة نيتها عدم خوض انتخابات 1990، فإنها أعلنت عن تأسيس حزب سياسي عند قرب موعد الانتخابات وعبّأت الناخبين من خلال شبكات الحزب الشيوعي القديمة في الريف والحضر، وحسمت الجبهة الانتخابات بأغلبية مطلقة في أول برلمان روماني بعد الاستقلال، البرلمان الذي وضع دستوراً يطلق صلاحيات السلطة التنفيذية وخصوصاً الرئيس، ونستحضر معاً هنا عبارة أخرى شهيرة: "لم أكن أنتوي الترشح" أو كما قال نجيب محفوظ "سيدنا الحسين ناداني فلبيت الندا يا سي السيد"، جميعهم لم ينتووا الترشح وإنما قام الشعب بتكليفهم!
وفي عام 1992 تحدث أول انتخابات رئاسية خاضها إليسكو رئيس جبهة الإنقاذ، وأسفرت عن فوزه بأغلبية مطلقة قاربت 85% من أصوات الرومانيين عن طريق التزوير، نجحت "جبهة الإنقاذ الوطني" في إجهاض الثورة الرومانية بعد عام ونصف العام فقط من قيامها، وفقدت الثورة الكثير من التعاطف الدولي لها.
لم يكن الشاعر المصري الشعبي ابن عروس متمنياً للمستحيل، حين قال قولته الخالدة: "لا بد من يوم معلوم، تترد فيه المظالم، أبيض على كل مظلوم، أسود على كل ظالم"، لأننا سندرك من مطالعة وقائع كثيرة في التاريخ أن لا بد من وجود نهاية تعيسة تحل بكل ظالم بشكل أو بآخر، إما في حياته أو بعد مماته بسنين لتمنع تخليده بالشكل الذي تمناه، وهذا ما حدث بالضبط في حالة رومانيا، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2016 أعلن القضاء الروماني إعادة فتح تحقيق في "جرائم ضد الإنسانية" يحتمل أن تكون حدثت إبان الانتفاضة الشعبية ضد النظام الشيوعي في ديسمبر/كانون الأول 1989، والذي قتل خلالها حوالي ألف شخص إثر إعدام الديكتاتور تشاوشيسكو وزوجته، وأعلنت النيابة العامة العسكرية لدى محكمة النقض العليا في بيان أن التحقيق سيجري هذه المرة في "جرائم ضد الإنسانية" وهي من الجرائم التي لا تسقط بمرور الزمن فهي جرائم لا تسقط بالتقادم، ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية فقد فتح القضاء التحقيق في هذه القضية ضد مجهول، لكن النيابة العامة العسكرية وجهت في بيانها أصابع الاتهام إلى "الإدارة السياسية والعسكرية الجديدة"، والتي تولت السلطة بعد إعدام تشاوشيسكو، أي أن الاتهام وجّه إلى "جبهة الإنقاذ الوطني" بقيادة ايليسكو.
الخلاصة:
يقول ديزموند توتو: "إذا كنت محايداً في حالات الظلم فقد اخترت أن تكون بجانب الظالم"، ويقول علي شريعتي: "لا فائدة من ثورات تنقل الشعوب من الظلم إلى الظلام، ومشكلتنا في الثورات أننا نطيح بالحاكم ونبقي من صنعوا ديكتاتوريته لهذا لا تنجح أغلب الثورات؛ لأننا نغير الظالم ولا نغير الظلم".
ويقول لاري فلينت: "حكم الأغلبية يصلح فقط إذا كان هناك احترام للحقوق الفردية، فمن غير المعقول أن تجمع خمسة ذئاب وخروفاً ثم تأخذ رأي الأغلبية عمن سيأكلون في العشاء".
ويقول كريستوفر هيتشنز: "لا تقف أبداً موقف المتفرج من الظلم أو الغباء، القبر سيوفر متسعاً من الوقت للصمت"، الظلم دائماً لا يدوم والطغاة لا بد أن يسقطوا فى النهاية، الأهم دائماً هو تأكدنا من ذلك ويقيننا المستمر أن غير ذلك هو سوء ظن بالله، الباقي دائماً هو الثبات على المبادئ، ففي النهاية التاريخ لا يذكر أو يمجد إلا أولئك الذين قالوا "لا"، حينما قال الجميع "نعم"، ويحضرني هنا رائعة مسلسل "المال والبنون" الذي كتبه محمد جلال عبد القوي وأخرجه مجدي أبو عميرة، عباس الضو قال "لأ" يا بشر.
اسمعوا واستمتعوا بالأغنية الرائعة "أثبت مكانك" لفريق كاريوكي:
اثبت مكانك هنا عنوانك ده الخوف بيخاف منك وضميرك عمره ما خانك
اثبت مكانك ده نور الشمس راجع يا تموت وأنت واقف يا تعيش وأنت راكع
أنت نور الفجر وهتافك صوته أعلى من صوت الرصاص والغدر
اثبت مكانك وادعي ويّا الأدان لك رب اسمه الحق والعدل والسلام
اثبت مكانك وكتفك في كتف أخوك لو مهما راحت روح الفكرة مش هتموت
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.