الأربعينيات من العمر سن فريد في حياة الإنسان حتى إنه العمر الوحيد المذكور صراحة في القرآن.
يحدد البعض أن أهمية الأربعين في كونه سن اكتمال النضج، وكأن موتسارت وفان جوخ وطرفة والنووي وهندريكس وأبو تمام وطابوراً طويلاً يقف خلفهم ممن قضوا دون الأربعين لم يكونوا ناضجين كفاية؛ ليمتعونا حتى الآن بعطائهم الإنساني.
ويقول آخرون إن الأربعين هي القمة التي نبدأ بعدها بالانحدار، ورغم صحة هذه المقولة نسبياً، فإنها ليست كذلك على إطلاقها، فما بال شعوب آسيا التي تمثل ما يزيد عن نصف سكان العالم، ويبلغ متوسط أعمارهم الثمانين، وغالباً ما يعملون حتى منتصف السبعينات بنشاط شديد.
أعتقد أن السبب يكمن في أن المتغيرات التي تحيط بالإنسان تتخذ منحى حاداً وعنيفاً في الأربعينات، تجعلنا نلجأ إلى مراجعة كل ما حولنا، وكأننا نرى العالم للوهلة الأولى، مسؤوليات تتضخم مع ازدياد عمر من ظننا أنهم سيظلون أطفالاً إلى الأبد، أحلاماً كثيرة نكتشف أننا لم نعد نقدر على نقلها من عالم الخيال إلى أرض الواقع، انسحاباً من الحياة لأشخاص كانوا زاد العمر وقوته، جسداً لم يعد قادراً في أحيان كثيرة على الاستجابة لكل ما نتمناه.
في الأربعين يحدث ما يشبه الولادة الثانية حيث نكتشف أن عالم القدرة الذي كنا ننتمي إليه لم تعُد أوصافه كما اعتدناها، وأن القادم تزيد في أركانه الأماكن المظلمة فلا نستطيع تلمس ملامحه، ولأن الإنسان بطبعه يكره المجهول، تنشط غريزة الحياة والدفاع الذاتي عنها أمام الخطر الكامن والذي لا نعرف كيف سيباغتنا.
هنا يبدأ الارتباك الكبير فتتحول خطواتنا التي كانت محددة الاتجاه والحجم إلى خطوات راقص يرتجل على إيقاع موسيقى يسمعها للمرة الأولى أنه الاندهاش والخوف والوجل من القادم الغامض.
وهذا ما يدعوه علماء النفس أزمة منتصف العمر، ومن وسائل الدفاع الذاتي التي يتخذها المرء لمجابهة هذا المجهول انتقاد شريك أو شريكة العمر، والتركيز على العيوب التي كان يغفل عنها أو يلفت النظر إليها قبلاً برفق، في محاولة للخروج من المأزق الوجودي بإزاحة أسباب أي فشل حدث أو سيحدث عن الذات وإلصاقها بالآخر، ومن ثم يبدأ إحصاء الفرص التي كانت في الماضي للارتباط بشخص أفضل، وتزداد سطوة الأنا وتتكرر ممزوجة عادة بكلمة كنت، ومن مظاهر هذه السطوة الاهتمام بالمظهر وملاحظة الجسد وأي تغيّر عليه، والهلع من الأمراض، والميل إلى الانعزال والتنصل من المسؤوليات العائلية، وتتمحور الحياة حول الذات التي يعتقد أنها ظلمت لفترات طويلة.
وينخفض هرمون التيستيرون فيزداد استخدام المنشطات الجنسية لدى الرجال، وأحياناً كثيرة يتحول الرجل إلى كائن جنسي ليست نتيجة زيادة الشبق، ولكن نتيجة انخفاضه وهو التغير المريع في حياة الرجل.
ولأن المجتمع الإنساني بشكل عام مجتمع ذكوري فعلي حين يبحث الرجل عن شريك آخر في وجوه مَن يخالطهم من الشابات لإثبات أنه ما زال موجوداً في استعادة باهتة لمراهقة ولّت، عادة ما تكون المرأة أكثر توازناً نفسياً، خاصة من مرت بالمراحل الطبيعية في حياتها كالحب والزواج والإنجاب فتنكفئ على ذاتها، وقد تظهر لديها الكثير من الاهتمامات والمواهب التي لم تكن تعرفها حتى عن نفسها في الماضي، وهو ما تشير إليه باستفاضة إيدا لوشان في كتابها "أزمة منتصف العمر الرائعة".
ومن وسائل الدفاع الذاتي التي يلجأ إليها الرجال والنساء على السواء هو النكوص إلى الماضي، فتنمحي عن الماضي كل رتوش المعاناة؛ ليبقى وجهاً نضراً قادراً على حماية الحاضر من الخطر القادم.
وتلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً هاماً في هذا الصدد، حيث تكثر في هذه المرحلة العمرية تلقي دعوات للانضمام إلى المجموعات التي تضم زملاء الدراسة السابقين أولئك الذين نتذكر ملامح بعضهم إن لم يكن الكثير منهم بالكاد.
تبدأ مثل تلك المجموعات بكثير من الحماسة وتركز أغلب المنشورات عليها على الذاكرة وما كان وتبدأ عادة بكلمة فاكر، ثم يتم استهلاك كل الماضي، وهي مرحلة هامة وتأسيسية يجب المرور بها؛ لأنها لازمة لإنعاش الذاكرة وبث الروح مرة أخرى في صداقات ظن أصحابها أنها طويت.
والخطر يكمن دائماً بعد هذه المرحلة؛ حيث تصبح أغلب البوستات مليئة بالورود وتمنيات بصباحات مشرقة وليالٍ هنيئة وأيام سعيدة، وحتى الوقوف عند هذه المرحلة لا يبدو سيئاً أبداً في العلاقات الإنسانية، الخوف كله يبدأ وسيبدأ عندما ينتقل الحديث إلى الطقس، هنا يكون الملل قد أصاب الجميع، فينصرفون عن العالم الأزرق إلى عالم واقعي يمتلك قوة جذب أقوى بمشاكله وهمومه التي لا ترحم، خاصة في بلادنا العزيزة.
الأكيد أنه لا يمكن أن تؤسس علاقة على جذور مقطوعة الصِّلة بأفرعها؛ لذا يمكن لهذه المجموعات أن تجعل طقوس العبور من مرحلة منتصف العمر أيسر إذا ارتبطت بالغد، فالمجموعات هي وسيلة للتواصل الاجتماعي والسياسي وتلعب دوراً هاماً في هذا الصدد وتوفر مساحات للنقاش حول القضايا المختلفة، وذلك بشكل متوازن، وبعيداً عن القمع والصوت الهادر لوسائل إعلام الدولة، فيمكن لهذه المجموعات أن تكون وسيلة لترميم ما حدث من شروخ في جدار المجتمع عقب انقلابات العسكر وإخفاق الربيع العربي في بلوغ أهدافه، ليس فقط من الناحية السياسية ولكن القيمية أيضاً، والتي تنهار مع التآكل السريع للطبقة الوسطى في مجتمعاتنا، فقد تساعد هذه المجموعات الطبقة الوسطى على إجابة السؤال المطروح على وجهتها وأحياناً هويتها في الفترة الراهنة.
هذه المجموعات أيضاً يمكن أن تفتح آفاقاً للتطور الذاتي والقومي إذا تم خلق أشكال للتعاون في المجال المهني، خاصة أن أفراد المجموعة عادة ما ينتمون إلى مهنة واحدة أو مهن متقاربة.
إن تبادل الخبرات وحتى الهوايات يجعلك تعيد اكتشاف موقعك من المجتمع المحيط بك واكتشاف وجوه كنت تستبعدها من دائرتك المقربة بدعوى عدم المواءمة، الآن قد تقتحم هذه الوجوه مجالك الخاص؛ لأنها قد تكون أكثر ملاءمة في هذه المرحلة العمرية.
ولتحقيق الاستفادة القصوى من تلك المنصات يجب بدايةً التخلي عن حساسية الذات المفرطة، وهو مرض يجعلك تحاول أن تثبت لزملاء الدراسة القدامى أن ما حققته يفوق ما حققوه، فتملأ إنجازك بماء الوهم حتى يتضخم أمام الآخرين.
وأن تدرك أن اشتراكك بهذه المنصات قد يحسّن من إيقاع ما يمكن أن يطلق عليه مركز الحياة دون أن يحولها إلى فوضى، ومركز الحياة هذا هو ما استطعت أن تنجزه طوال السنوات السابقة من أسرة وعمل وعلاقات، ولتعلم أن الناس يختلفون في تقدير مساحة الخصوصية التي تحيط بهم، فلتقف دائماً عند حدود المتاح.
هذه المجموعات قد تساعدنا على أن نغيّر معاطفنا دون أن نُغير جلودنا، وأن تنزع مرارة ترسبت بفعل الفشل في بعض محطات الطريق، وتمنحنا بعض الشجاعة لمواصلة أشياء كنّا نظنها لا توصل، وتقينا ولو لحين رهاب الخوف من القادم المجهول، كل هذا بشرط خلق منطقة مشتركة للجميع في المستقبل، وعدم الاكتفاء بأصداء صوت الماضي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.