أحياناً تحتاج إلى أن تكون أنانياً

لا تخشوا الرحيل، ولا تتنصلوا من أنانيتكم، فما يراه البعض أنانية يكون أحياناً مخرجاً لمنافذ أوسع؛ لأن الأنانية الحقيقية هي الاحتفاظ بأحدهم لمجرد أنه يوفر لك إحساساً بالأمان، ومنعه من إيجاد الحب الحقيقي.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/08 الساعة 06:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/08 الساعة 06:45 بتوقيت غرينتش

لم أكُن أتوقع أن يأتي اليوم الذي أؤمن فيه بهذه المقولة التي قالها لي يوماً أحد المقربين، فكيف لمن تعتنق الحب مذهباً في الحياة أن تؤمن بوجوب سيطرة الأنانية على أفعال البشر أحياناً كثيرة؟ إنما الحياة فقط تُقلِبنا كيفما تشاء، وتقولبنا حسبما ترى؛ لنرى أشياء بعين داخلية لم تكن قد استيقظت من قبل، ولنغيّر قناعات قديمة ونستبدلها بأخرى أكثر حكمة، ولنصبح أكثر مرونة مع الزمن؛ لنتقبل ما كنا نظن أننا لن نقبله أبداً.

نعم، تحتاج في كثير من الأحيان إلى أن تكون أنانياً بما يكفي؛ لكي تقف لنفسك؛ لأنه لن يقف أحد من أجلها، أحياناً تحتاج إلى أن تكون أنانياً بما يكفي لئلا تعبأ بأحد، لئلا تنتبه لما يقولونه عنك، لأن تنتبه لنفسك فقط، لأنهم سيجترونك معهم للقاع، سيجبرونك على أن تكون شخصاً أنت لست منه في شيء، سيدفعونك لبذل الكثير، ثم يعتبون عليك!

بعض العلاقات تحتاجك لأن تكون أنانياً، لأن تمضي للأمام ولا تلتفت للوراء مطلقاً، لأنها بمثابة رمال متحركة، تُغرِقك إلى أعمق نقطة في اللاإخلاص، تجبرك على أن تكمل مشواراً لا تؤمن به، لا تبدو سعيداً فيه، لا تشعر أنه خُلِق من أجلك، لكنك تضطر للمضي فيه قدماً حتى لا يقال عنك أنانياً، فتقتطع أجزاء من روحك وتلقي بها بعيداً لكي لا تُذكرك بوجوب رحيلك، لكي لا تشعر بأنك بقاءك كذبة، محض كذبة، تكذبها على نفسك وعلى شركائك في هذه العلاقة.

وأنا لا أكتب هذا المقال لتحريض الجميع على الرحيل من أي علاقة إنسانية لمجرد الرحيل في ذاته كهدف، إنما السؤال الأهم هنا: متى تكون أنانياً لترحل بعيداً ولا تهتم لنظرة اللوم التي تعتري وجوه شركائك في هذه العلاقة؟!

ترحل بعيداً حينما تشعر أنك لن تستطيع أن تعطي هذه العلاقة أكثر مما أعطيت، حينما تشعر أنك تعيس، غير قادر على الالتحام بالطرف الآخر، تشعر بالاغتراب كلما تناقشتما في شيء، تشعر بالوحدة حتى وإن كان حولك، تشعر بأنك تتغير لشخصية لا تعرفها، لا تدرك كُنهها، ولكنك تحس عدم الارتياح بشكل عام، ترحل حينما تشعر أن هذه العلاقة تجذبك لها كلما قاومتها، وأنك مستمر فيها خوفاً من الإحساس بالذنب في جرح الطرف الآخر، خوفاً من اللوم، من العودة للوحدة مرة أخرى، خوفاً من الندم على القرار، أو تستمر في العلاقة وكأنك تكمل قراءة كتاب ظننته ملائماً لذوقك، لكن ما لبثت أن أدركت أنك لم تحبه أبداً مع الصفحة الثانية.

ومع هذا تستمر في القراءة، الصفحة الثالثة، الرابعة، العاشرة، الفصل الثاني، تمقته مع كل حرف زيادة، لكنك تستمر! ربما بدافع الرغبة في عدم إضاعة كل هذا المجهود المبذول في القراءة من البداية، أو ربما بتصبير نفسك بأنه لربما ثمة شيء ما خلف كل أوراقه هذه، ربما ستصل إلى مبتغاه الثمين الرائع مع كلمة النهاية، أو ربما لأنك تُمني نفسك بأنه حتى ولو لم تصل لهذا المبتغى ستكون قد "عملت اللي عليك"، بذلت كل جهد محتمل في إنجاحه ككتاب من وجهة نظرك، لقد حاولت، لكنه لم يعجبك أيضاً.

ما لا نفهمه أثناء هذه الرحلة هو أن المحاولات المستميتة للإعجاب بالكتاب ستبوء بالفشل؛ لأن كيمياءنا لم تكن يوماً متماشية معه، وأن كل الجهد المبذول في القراءة هو استنزاف للروح، واستهلاك لمادة الكتاب وصفحاته والمعاني الموجودة بين طيات أوراقه أصلاً؛ لأن ثمة شخصاً ما في هذا العالم مخلوق ليقرأ هذا الكتاب فيهضمه هضماً دونما أي حاجة لبذل مجهود، وليسعد بمعانيه ويفهمها، وحينها يؤدي الكتاب رسالته دونما تتمزق أوراقه أو تهترئ، لكن ما يجعلنا نستمر في القراءة هو الخوف من رحلة البحث عن كتاب جديد؛ لأنها مليئة بالمجهول، والمجهول مخيف جداً!

هذا بالضبط ما يحدث حين لا نكون أنانيين بما يكفي لنرحل عن الشركاء الذين أحبونا بشدة، لكننا لم نكن قط متناغمين معهم، وسواء أكان دافع بقائنا هو الإحساس بالذنب أو الخوف من الوحدة أو المجهول أو عدم اليقينية في البحث عن السعادة من جديد بعد أن كانت الروح قد ارتكنت إلى أننا سنجدها هنا بالضرورة، هذا لن يجعل التجربة تستكبر، ستستيقظ يوماً كجوليا روبرتس في فيلم "طعام، صلاة، حب" وهى جالسة بجانب زوجها تتأمله وتشعر بالاغتراب، وبأن مكانها ليس هنا، لكنها تتخذ قراراً شجاعاً بما يكفي لترحل، وتتقبل أنانيتها ولا تتراجع عنها أبداً برغم عتاب الجميع على رحيلها للبحث عن السعادة، بعيداً عن زوج أحبها حدّ الثمالة، وبيت مستقر، سيستيقظ شاعراً بأنك لا تنتمي، وهذا شعور رغم بساطة صياغة تعبيره، إلا أنه قد يكون مميتاً إلى حد لا تتصوره!

عدم الأنانية في مثل هذه المواقف يُخرِج لنا أزواجاً متحابين بالصدفة، بيوتاً هشة من زجاج مشاكل بسيطة قد تنقضها وتهدها رأساً على عقب، أزواجاً مستمرين في مسرحية هزلية اسمها زواج، لكنهم ليسوا متزوجين بما يكفي من داخلهم، غير سعداء، وغير قادرين على العطاء، يلفون في دولاب الحياة كالهامستر الصغير غير القادر على الهرب، وبالوقت يتحولون لمسوخ، فقط لأنهم كانوا خائفين من البدء من جديد، أو خائفين من جرح مشاعر بعضهم البعض، مع أنهم يجرحون بعض يومياً بالاستمرار في هذه المسرحية، ومع أنهم يجرحون بعضاً بأنهم لا يعطون بعضهم البعض فرصة إيجاد الحب الحقيقي، والزواج المبني على معانٍ عميقة متجذرة في القلب والروح.

لا تخشوا الرحيل، ولا تتنصلوا من أنانيتكم، فما يراه البعض أنانية يكون أحياناً مخرجاً لمنافذ أوسع؛ لأن الأنانية الحقيقية هي الاحتفاظ بأحدهم لمجرد أنه يوفر لك إحساساً بالأمان، ومنعه من إيجاد الحب الحقيقي.

لا تخشوا الفقد، فإن بعض الفقد خفة، وأنا الآن خفيفة، حد الطيران!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد