أسأل الله أن يرفع قلمك يا مسكين أميالاً عن الغايات!
حاول أن توقظ نائماً بملامسة إصبعك لجسده، أتراه يستيقظ في الحال؟
دعك من هذا، امسك يده وحركها، نادِ عليه، هل سيستيقظ هلعاً، منهاراً عصبياً؟ عليَّ ألا أتركك تفكر كثيراً، سأجيبك عما طرحته عليك.
أتعرف من يستيقظ هلعاً مفزوعاً عند ملامسة إصبع ذاته جسده وإن كان يقظاً! هو من نام على صوت السياط وهي تنهال على أجساد المعذبين في الوقت الذي تجد نفسه فيه وهي أشد تعذيباً منهم أهون عليها من سماع صريخهم وصيحاتهم، -فلربما هم استطاعوا أن يجدوا لأنفسهم مخرجاً بصريخهم وصيحاتهم- من اعتاد النوم قلقاً حتى إذا ما سمع صوت النعال وهي متجهةً لفتح العنبر، لمن صار صاعق الكهرباء في كل أماكن جسده مع الدماء جنباً إلى جنب، لمن جف لسانه من كثرة الكلام والصريخ ألماً، لمن لا يكاد عوده يصلب على بلاطها البارد إن شاء الرقاد.
هون على نفسك بمقولة الفارس -رحمه الله- فـ(فيض الدمع .. ذلك أدنى المراتب)!
إن تلك المآسي التي لو أخذتنا في الحديث لجديرةٌ أن تأخذك أخذ عزيز مقتدر؛ فتنتزع من عينيك النوم انتزاعاً. تقلب.. تقلب يا صديقي على مضجعك كما تتقلب على الشوك، ولا تدري على أي تبكي!
منذ سنتين -أو يزيد- من "اختفائه القسري" للمرة الأولى مروراً بالثانية، وهو خرج لحياة دنيا لا يستطيع العيش فيها، لم يعد شخصاً سليماً يستيقظ بهدوء كما كان أو ينام حتى بهدوء، فبزوغ الفجر عنده يعني حديثه من تلقاء نفسه: "أنا ذا الذي صار له مع بزوغ كل فجر مخرج".
في بداية الأمر كان يفزع -ويخفي سراً عمن حوله- عندما يلمس إصبعه الأخرى دون قصد، يرى والده عصبيته من اللاشيء ورغم ذلك كان والده متفضلاً في مداركه، ربما كانت حالته لو عرضت على طبيب نفسي لأزعجته ولتعسر في علاجها الأطباء جميعاً.
هذه الدنيا التي صورها الله له في فجر الثانية صباحاً من لحظة خروجه إلى شوارعها المستضاءة أعمدتها وهو يرتدي نظارته فيراها رغم ذلك كله مشوشةً بين تلك العدستين، ولكن يقتلعها ويمسح ما بها من أتربة الأدراج هناك ولا يزال أيضاً الكون من حوله مشوشاً.
خرج لهذه الدنيا شخصٌ آخر ينتظر آخر ترقيات ربه، فلم يقوَ قلمه -طيلة عامين كاملين- على أن يستجيب لنداء كل ما هو ملموس وغير ملموس منه من عقل وقلب وجوارح، بل يعيش على أنفاس الدعاء سراً وخفيةً، حيث هناك (فيض الدمع.. ذلك أدنى المراتب).
ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون!
فماذا إذن إن كان ذلك كله في عامين من أهم أعوام حياته -المسكين- الدراسية؟ هل تبدأ كما رسمها له والده! دعني أخبرك بما بدا على هذه الأسرة المسكينة؛ للمرة الأولى منذ أن كان في "الثالث الثانوي" فما بعدها أخذ والده يدفع مبلغين من المال سنوياً؛ الأول منها ضريبة للجزء بالمائة من نصيبه في نسبة "الثانوية العامة" التي كان قصورها ضريبةً أيام قضاها بعيداً وراء (الاختفاء القسري)؛ ليلحق بكلية الهندسة مرةً أخرى، فيصير له شأنٌ عند نظرة المجتمع في منظور والده وينهض به دينه، أما المبلغ الثاني فهاك (بين الثاني من مايو/أيار لعام 2015 والعشرين من مارس/آذار لعام 2016) كانت هي المرة الثانية من "الاختفاء القسري" وتوافقها أحد امتحاناته الجامعية التي يدفع والده من أجل شهادتها مبلغاً سنوياً من المال، واعتاد الأمر اعتياداً منذ هاتين المرتين وهما الأهم، ولكنه بدأ يتساءل بعجب شديد: ما دفع هؤلاء لكي يعتادوا الذهاب به إلى المكان آنذاك!
فعلى الرغم من أن تلك الأسئلة قد حفظت من لدن يوسف -عليه السلام- إلى المسلمين الأوائل، إلى الأئمة الأربعة وعلى رأسهم ابن حنبل، إلى ابن تيمية الذي مات هناك، فإنهم إن أرادوا أن يستقوا من حرقة دم والديه ولهفتهم شوقاً في العام الواحد مرةً أو مرتين ساقوه إلى المكان آنذاك؛ لينتهي الأمر عند كلمة قاضٍ: "إخلاء سبيل بكفالة وقدرها مبلغ من المال"، فما دام الأمر هكذا أليست مرةً واحدةً تكفي يا سيادة القاضي للرد على كل هذه الأسئلة والتبرئة على مجملها من كل "زيف اتهام"!
إذن لماذا هو دوناً عنّا جميعاً -أنا وأنت وكل أولئك- بدلاً عن أن يترتب على ذلك في كل مرة أن يخرج بعد أيام يبدأ من حيث انتهى فيُلملم شتات نفسه من جديد؟
دعك من كل هذه البعثرة التي لا تُجدي، بل سل نفسك وقل هل انقطع عنهم العلم بأنه من تغنّى في صغره "موطني"؟!
على كل فهو بدأ عاماً دراسياً جامعياً جديداً، دوناً عن عام مضى سادته خيبة أمل ويأسٌ وبأسٌ وضراءٌ أوقعوا به أرضاً وتركت ذكريات داميةً لن تستطع الأيام بل السنوات حل أمرها؛ تجرع بينها مرارة الفقد، وأياماً كالسنين من الاعتقال، وأشهراً متناثرةً من المطاردة، ورفقةً ارتقوا على حين ثورة، يشوب كل هذا الإهمال الشديد في دراسته.
تلك مبادئ أي إنسان أخذت تعاهده نفسه القوية فاستخلفت فيه دروب الصالحين ممن رحلوا، عاشت قليلاً، وكادت تنهدم بل كان كاهلها، فشتان شتان بين النفس وكاهلها، عادت هي لتعيد ترميم كاهلها؛ فأخذت تفرغ ما به مما طاله سنتين كاملتين، فتعيد هيكلته في صورة لا يستطيع أي بشر أن يستخلفه على السواء، فتنقب له عن أسرار على المدى البعيد لتعينه وتستزيد له من هاتين "أبيك" تارةً و"أمك" تارات أخرى، وسبحان من وضع في نفسه تلك المجاهدة في هذه الفترة البسيطة؛ ليعود ويكأنه لم يصبه من نوائب الدهر شيئا، وكأن نفسه لم تتغير قبل عامين تجرع فيهما مرارة الفقد والفشل؛ ليصير طالباً يحمل من العزيمة ما يخوض به الوديان.. حكمة الله غريبةٌ!
قد علمت أن مقاديرك بين عبادك ليست سهاماً طائشةً، ولا هي نياق عشواء، ولكننا لا نستطيع أن نملك أعيننا من البكاء ولا قلوبنا من الجزع، وما إن فارقنا عزيزٌ علينا باتت ساحة الصبر التي منحتنا أضيق من أن تسع نازلة البلاء الذي أبليتنا، فاغفر اللهم لنا ولهم جزعنا وجزعهم وبكاءنا على الهلكى منهم وبكاءهم الذي كان إحلال أحدهم محل الآخر أهون عليهم منه.
وقد تعلم أن الصديق الذي نعثر به في طريق حياتنا هو بمنزلة الدوحة الخضراء التي نترامى عليها من الصحراء بعد الكلال وطول السير والسرى، فنترامى في ظلالها الوارفة هانئين مغتبطين، فإذا ما هب ريحٌ عاصفٌ فاقتلعتها من جذورها وطارت بها إلى عنان السماء، أصبحنا من بعد لا نجد بداً من البكاء والجزع.. فمن الشقاء ما لا يطاق احتماله ولا يطاق تجرع كأسه.
إلى من جعلوا ندب الدهر وروداً ومن أشواكه بلسماً رطباً ومن شقائه سعادةً لا نشقى بعدها أبداً، فأي شعور هو؟ بل بأي قدرة لا ينبتها الله إلا في نفوس معشر الآباء تجعلهم يزهرون وسط شقاء الأيام وعواصف الزمان!
إلى أمي.. إلى أبي.. إلى أصدقائي بالبلدة التي عشت فيها.
هي العاطفة التي توحد الآلام وتجمع الأسقام، فيغدو الحزن أحزاناً والفرح أفراحاً! في تلك المرة التي انتهى بي الطريق فيها إلى بيتنا بعدما ارتديت نظارتي هاك هي الهدية التي اختبأت عني وتأخرت لتلقاني وهي أنضر قلباً وأكثر وهجاً، العرفان والامتنان لا يكفيان لمثلك -يا من جعلتي من سخطنا رضا ومن تمردنا حريةً، بل هي جنانٌ عند الرحمن ندعو الله أن يسوقها إليك. (إلى أمي).
هو الصدق الأبوي النقي الذي جعل من وقع المصيبة المدوية لحناً عذباً تصوغه رأفته، وتجمله حكمة الإنسانية، وترصعه قيم وأخلاقياتٌ ساميةٌ، هاك أبتِ الذي جعل من ويلات الحرب درباً نسلكه باسمين، ومن مرارة الفقد صبراً نحتسبه عند رب العالمين، العرفان والامتنان لا يكفيان لمثلك -يا من علمنا ألا نرضخ للظروف وألا ننتظر الفرج آملين، بل يا من سلّحنا بالإرادة- بل هي جنانٌ عند الرحمن ندعو الله أن يسوقها إليك.. (إلى أبي).
هم الجدعان المخلصون الأوفياء الصادقون الكرماء الطيبون، من يرون سعادتنا فيفرحون وما إن يروا مصاعب الدنيا علينا فيعينون ويتحملون، يرون ضعفنا فيقومون ويؤازرون، هم ذوو المروءة والخلق والنبل، كل جميلٌ يحدث لنا فبسببهم، وكل مكروه يندفع عنا فبفضلهم.. جزاكم جميعاً الله عنا خيراً، ورزقكم من النعيم يا من جعلكم الإله علامة كل تيسير وأساس كل بهجة.. (إلى أصدقائي).
"إن ربي لطيفٌ لما يشاء إنه هو العليم الحكيم".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.