يتساءل المرء عن دافع كثير من الفقهاء، وبالتحديد من اصطُلح على تسميتهم بـ"السلفية" للنأي بأنفسهم عن كل ما يتعلق بعلم المنطق، بل وذمّه وتجريح من اتخذه منهجاً، وأرى أن أهم ما حدا بهم لذلك افتراضهم أن مرجعية خطابهم الفقهي لا تُستمد إلا من ذاتها، وهذه بطبيعة الحال من أهم المآزق المعرفية لكثير من الخطابات القديمة والمعاصرة، التي ترى أنّ مرجعيتها ذاتية ولا تحتاج إلى ما يعززها من خارج إطارها، لكني أرى أن الدافع الأهم لهذا الرفض يمكن استنباطه من وصف ابن تيمية للمنطق بعبارته المشهورة: "إن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي، ولا ينتفع به البليد"، فابن تيمية وغيره اعتمدوا الاستدلال المنطقي الصوري، سواء بشكل بديهي كما يدّعون، أو مبطن غير معلن، وأخرجوا الفتاوى بشكل تنسجم فيه النتائج مع المقدمات، طبقاً لضوابط المنطق الأرسطي، ولا أدل على ذلك من آليات القياس الفقهي التي تتطابق ضوابطه مع نظيراتها في القياس المنطقي، ومع هذا فقد حاولوا أن ينأوا بأنفسهم علناً عن استخدام المنطق الصوري، باعتباره إحدى أدوات خصومهم التقليديين كالفلاسفة والمتكلمين.
وفي هذا السياق، علينا أن نتذكر أن المنطق الأرسطي أو علم الميزان (كما سماه الإمام الغزالي) محدود بصحة استخلاص النتائج من المقدمات، فالمنطق ليس معنياً بمحتوى هذه المقدمات؛ حيث إنها تُعامل كبديهيات مسلّم بها؛ لكنه معنيّ بصحة استخلاص النتائج على افتراض صحة المقدمات دون التمحيص بها، فهو بذلك أداة مجردة معنية بالعلاقات وليس بمحتوى العبارات (كما هو الحال في العلاقات الرياضية التي تتعامل مع الرموز)، ومثال ذلك قولنا: مقدمة 1- كل إنسان فانٍ.. مقدمة 2- سقراط إنسان.. نتيجة – إذن سقراط فانٍ.
في المنطق الأرسطي نحن لسنا معنيين بصحة محتوى المقدمات، لكننا نسلّم بصحتها، وما يهمنا أن النتيجة "سقراط إنسان" هي نتيجة صحيحة منطقياً، بناء على المقدمات، في حين أن نتيجة مثل "كل فان إنسان" هي نتيجة خاطئة لا يمكن استنباطها من هذه المقدمات (بغض النظر إن كانت صحيحة أم لا).
وبالعودة إلى السياق الفقهي، فإن السؤالين المحوريين هما: هل مجمل الفتاوى والآراء الفقهية مضبوطة بآلية استنباط عقلي سليمة؟ وإن كانت كذلك فما هو سر الاختلاف في مخرجاتها التي تتراوح على سبيل المثال بين الطاعة العمياء لولي الأمر إلى وجوب الخروج عليه في حال ثبوت معصيته (وربما كان من أكثر نتائج هذا الاختلاف تطرفاً وجود فِرَق مثل القاعدة وداعش تدعي أن قناعاتها مبنية على ذات الأسس التي يدعيها فقهاء السلاطين وغيرهم، حتى ممن يتبعون ذات الأصول الفقهية عقيدة ومذهباً).
الإجابة على السؤال الأول هي بشكل عام نعم، فقلّ ما تُبنى فتوى من جهة مرجعية على علاقة غير سليمة بين المقدمات والنتائج، سواء بإظهار آليات المنطق أو إخفائها، إذن يبقى المردّ الحقيقي للاختلاف هو التلاعب بالمقدمات (الشرعية) المعتمدة ومصادرها، وهذه هي إجابة السؤال الثاني، أما آلية هذا التلاعب فهي تقوم ببساطة على زيادة المقدمات عن طريق:
– زيادة مصادر"الأدلة الشرعية"، ففي حين اكتفى أهل الظاهر مثلاً بكتاب الله وأحاديث رسوله، واشترطوا أن يكون النص المعتمد قطعي المعنى والدلالة، وأن يُستثنى حديث الآحاد -وهو معظم المتداول من الحديث حتى ما يوصف بالصحيح منه- في الفتاوى المتعلقة بالأحكام الشرعية، قام أصحاب المذاهب بتوسيع هذه القاعدة، فشملوا القياس والإجماع، ثم الاستحسان والعرف، والاستصحاب والمصلحة المرسلة وسد الذرائع، وحتى شرع من قبلنا وأقوال الصحابة والتابعين، وذلك دون دليل مقنع على حجيّة هذه المصادر.
– لم يكتفِ الحنابلة بالتحديد بالتفريط بشرط عدم قبول حديث الآحاد، بل قبلوا بالأحاديث الضعيفة كأحد مصادرهم المعتمدة، وقدموها على القياس وغيره من مقدمات الاجتهاد، ففي قبول خبر الآحاد والعمل به بدون تفريق بين العقائد والأحكام التشريعية الفقهية، قال ابن تيمية: "مذهب أصحابنا أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات"، وفي اعتماد الأحاديث الضعيفة، فإن ابن القيم في رسالته "أصول المذهب الحنبلي" يقول بالأخذ بالمرسل والحديث الضعيف ويعتبرها رابع الأصول.
– أخرِجَت كثير من الآيات عن سياقها وأسباب نزولها، وتم التعامل مع النص القرآني وما يحمله من معانٍ بانتقائية مفرطة، إلى جانب الاستعانة بفكرة الناسخ والمنسوخ (لفظاً وحكماً) كإحدى أدوات هذه الانتقائية.
إذن وحين يتوفر هذا الكم الهائل من المقدمات (الشرعية) التي تكتسب من القدسية ما يجعلها من المسلّمات التي لا يجوز التشكيك بها حتى لو ناقض بعضها بعضاً، يصبح من السهل جداً على المرء أن ينتقي ما يشاء منها كمقدمات للوصول لأحكام عامة دون الإخلال بآليات الاستنباط الأرسطي المعروفة، وأسوأ ما في الأمر أن هذا الوضع شجع نشوء شكل من "الهندسة العكسية" في الفقه، والتي تنطلق من النتائج ومن ثم تبحث في الكم المتراكم من المقدمات؛ لتختار ما هو ملائم لإثبات صحتها، وبشكل عام فإن هذا هو الأسلوب المفضل لفقهاء السلطان الذين يفتون بالأمر ونقيضه حسب ما تقتضيه الحاجة.
إلا أن الأمر لم يتوقف على ما سبق، فهذا الفيض المتراكم من "المسلمات الفقهية"، والتي تم تكريسها كمقدمات معيارية قد بقيت في الواجهة، وأصبح من المشروع استخدامها كمقدمات لفتاوى أخرى مطردة الازدياد، والأدهى من ذلك أن تلك الفتاوى نفسها تصبح مقدمات (مبرهَنة!)، تُسنبط منها فتاوى أخرى وهكذا دواليك، حتى أصبح الأمر ككرة الثلج المتدحرجة يزداد حجهما بالغث والسمين مما يلتصق بها من ركام الفتوى!
هذا التوسع المستمر في المقدمات يذكرني بنظرية عدم الاكتمال في المنطق الرياضي -وهي نظرية طرحها وأثبتها رياضياً عالم المنطق الرياضي الأشهر كيرت غودل- وتنص على أنه في أي منظومة أساسها مجموعة مسلّم بها من المقدمات فإن هناك نتائج أو عبارات صحيحة لا يمكن إثبات صحتها من تلك المقدمات، ولإثبات صحتها ينبغي افتراض المزيد من المقدمات، إلا أن هذه الزيادة ستولّد عدداً جديداً من العبارات الصحيحة التي لا يمكن إثبات صحتها، وهكذا دواليك، ويبدو أن إصرار البعض على خلق مرجعية دينية واستصدار فتاوى بالتحليل أو التحريم في كل ما يخص شؤون الحياة من قضايا اجتماعية واقتصادية ومدنية وسياسية وغيرها مما يقع خارج إطار الشرع، دفع إلى تراكم المقدمات الفقهية، الأمر الذي طرح إشكاليات أو نتائج جديدة في المنظومة يتطلب الحكم فيها مزيداً من المقدمات.
ومن الجدير ذكره في هذا السياق أن الدعوات المستمرة لتجديد الخطاب الديني منذ جمال الدين الأفغاني إلى اليوم لم تطرح آلية منطقية فقهية محددة لتحقيق هذه الغاية، واعتمد الداعون لها نفس الانتقائية التي اعتمدتها المذاهب التقليدية، وكلهم يغرف من ذات المستنقع حسب حاجته، وبما يؤيد وجهة نظره المسبقة، دون محاولة الرجوع إلى منبع الشريعة الصافي، في حين لا يمكن تحقيق هذا التجديد إلا بالنفاذ إلى حصن الفقهاء الحصين علم أصول الفقه، وإعادة النظر في حجية مصادره، كما فعل المجددون الأوائل كابن حزم الأندلسي والإمام الغزالي رحمهما الله.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.