فجأة، تذكرت الحكومة السعودية أن الفساد بات يزكم أنوف الجميع، وأنه بات يعشش في كل جنبات المملكة، والأهم أنه بات يهدد الاقتصاد والعباد، ولذا لا بد من وقفة حازمة لاستئصال شأفته قبل أن يتحول إلى مرض سرطاني يطيح الجميع، المواطنين قبل الأسرة الحاكمة.
وفجأة تذكر رئيس مجلس الشورى السعودي، عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، أن آثار الفساد مدمرة ومن أهمها تباطؤ الاقتصاد والبطالة وانعدام العدالة الاجتماعية ورفع تكلفة المشروعات.
وفجأة تذكرت السلطات المسؤولة أن إبراهيم العساف، والذي يعد من أبرز الشخصيات المالية المرموقة في المملكة طوال سنوات طويلة، هو شخص فاسد بامتياز، وأن العساف الذي شغل منصب وزارة المالية لمدة 20 سنة متواصلة (1996 -2016)، وكان حتى أمس وزير دولة وعضواً بمجلس الوزراء، يجب تقديمه إلى محاكمة عاجلة بتهم الفساد والاستيلاء على المال العام.
ولا نعرف بالضبط، في أي مرحلة ارتكب الرجل جرمه، هل تم ذلك خلال فترة توليه وزارة المالية الطويلة، أم خلال شغله منصب نائب محافظ مؤسسة النقد العربي "البنك المركزي السعودي"، أم ارتكب تهمة الفساد خلال رئاسته مجالس إدارات مؤسسات حكومية كبيرة منها: صندوق الاستثمارات العامة والمؤسسة العامة للتقاعد والصندوق السعودي للتنمية، وهي كلها مؤسسات تدير عشرات المليارات من الدولارات، لا أحد يعرف.
وفجأة تذكرت الحكومة السعودية أن عادل فقيه وزير الاقتصاد والتخطيط متورط في قضايا فساد في القطاع الذي كان يتولى إدارته حسب نص الاتهامات الموجهة له، فضلاً عن قضايا أخرى سابقة، وأن فقيه الذي تولى العديد من المناصب المرموقة، أبرزها وزارتا العمل والصحة، وقبلها أمين محافظة جدة، هو شخص فاسد منذ سنوات طويلة، ولذا أصدرت اللجنة العليا لقضايا الفساد أمراً باعتقاله بعد دقائق من إقالته من منصبه.
وفجأة اكتشفت هذه الحكومة أن واحداً من أبرز رجال الأعمال على مستوى العالم وهو الأمير الوليد بن طلال، أثرى أثرياء العرب، يرتكب جريمة فساد وغسل أموال قذرة، على الرغم من أن هذه الجريمة لو ثبتت صحتها، فإنها كفيلة بتدمير إمبراطوريته المالية حول العالم والحجز على استثماراته الضخمة في مؤسسات عالمية كبرى منها سيتي بنك وتويتر، وفقدانه الثروة الضخمة التي يمتلكها وتقدر بنحو 17.3 مليار دولار، وبالتالي لن يجد الرجل نفسه في لائحة أثرياء العالم ومحتلاً المرتبة 41 منها.
ويتكرر نفس السيناريو مع شخصيات سعودية بارزة جرى اعتقالها مساء أمس السبت بتهمة الفساد وغسل الأموال وإبرام صفقات وهمية مع الدولة، منهم صالح كامل صاحب مجموعة بنوك "البركة" المصرفية الشهيرة على مستوى العالم، ووليد آل إبراهيم مالك مجموعة قنوات "إم بي سي"، وغيرهم من الوزراء الحاليين والسابقين ورجال الأعمال.
القاصي والداني يعرف أن الفساد في السعودية متغلغل في كل جنبات الدولة منذ سنوات طويلة، وأنه ليس وليد اليوم أو أمس، والكل كان يشير بإصبعه إلى فساد أمراء ووزراء وشخصيات نافذة في المملكة سطوا على مليارات الدولارات خلال السنوات الماضية وارتكبوا مخالفات جسيمة في مشروعات وصفقات معروفة منها صفقات سلاح ومشروعات منها قطار الرياض والمدينة الاقتصادية والبنية التحتية بمدينة جدة، لكن جهة لم تتحرك نحو محاسبة أحد هؤلاء لأنهم محميون وأصحاب نفوذ.
لكن فجأة وبدون مقدمات فتحت الحكومة السعودية ملف الفساد على مصراعيه، وبدأت محاكمة أمراء ووزراء سابقين وحاليين ورجال أعمال من الوزن الثقيل، وصدر أمر ملكي بتشكيل لجنة مكافحة الفساد السعودية من أبرز مهامها: "حصر المخالفات والجرائم والأشخاص والكيانات ذات العلاقة في قضايا الفساد العام، واتخاذ ما يلزم مع المتورطين في قضايا الفساد العام"، والملفت هنا أنه قبل الإعلان عن تشكيل اللجنة تحركت قوات الأمن لتعتقل 11 أميراً و4 وزراء حاليين و34 وزيراً سابقاً ورجل أعمال ورؤساء شركات سابقة.
ولذا يصبح السؤال المشروع هنا: لماذا فتحت الحكومة السعودية الآن كل هذه الملفات دفعة واحدة؟ ألا توجد هيئة مكافحة الفساد "نزاهة"، والتي جرى تأسيسها منذ عام 2011، تحت عنوان حماية المال العام، ومحاربة الفساد، والقضاء عليها، وهي نفس أهداف اللجنة التي تم تشكيلها أمس، وما مصير التحقيقات التي أجرتها هيئة نزاهة على مدى السنوات السبع الماضية؟ وما مصير الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد التي أطلقتها الحكومة في عام 2007؟
إذن هناك أساب أخرى قد تكون دعت الحكومة السعودية للحديث بشكل مكثف عن مكافحة الفساد واتخاذ مثل هذه الإجراءات غير المسبوقة ضد أمراء ورجال أعمال ووزراء.
ومن وجهة نظري فإن السلطات السعودية تحاول من خلال حملة مكافحة الفساد الحالية ضرب عصافير عدة بحجر واحد؛ الأول هو تعزيز سلطة ولي العهد محمد بن سلمان، وإظهاره بمظهر الشخص القوي الذي يحارب الفساد ويضرب بيد من حديد على بؤره حتى لو كانت قادمة من الأمراء والوزراء الحاليين، والثاني هو التخلص من أي معارضة محتملة للأمير محمد، والثالث هو امتصاص الإحباط والاحتقان السائدة بين كثير من السعوديين بسبب عدم تحقيق إنجازات ملموسة على المستوى الاقتصادي وأن رؤية 2030 لم ينفذ منها سوى الشق المتعلق بزيادة الرسوم والأسعار وخفض دعم الوقود والبدء في خصخصة بعض المؤسسات الحكومية.
– تم نشر هذه التدوينة في موقع العربي الجديد
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.