تحدثني أمي في الهاتف مبدية استياءً واضحاً، أسألها ما الأمر، فتفصح بعد إلحاح: يا ماما ما تكتبي في الدين! ليش تحكي عن النقاب، خلص خليك في حالك، اكتبي أي إشي تاني. أعرف أمي وأعرف أنها لا تختلف معي من وجهة نظر دينية في حكم النقاب وأنه ليس فرضاً، وأن التدين الشكلي طغى على التدين الحقيقي، أناقشها فتقول لي: ما تحكي عشان ماحدش ييجي فيك.
لم أكن بعد قد تمعنت في مدى سوء التعليقات التي وجهت للمدونة، بالتأكيد توقعت أنها لن تعجب فئة كبيرة فقط لمجرد أنني أقر حكماً شرعياً معروفاً وأحكي عن تجربتي في تتبع مظهر تدين شكلي وتوصلي لحقيقة أننا بحاجة للتوقف عن الخطاب الفارغ من المعنى الذي يهتم بالمادة أكثر من الجوهر. قلت لها: ومتى كان يهمني رأي الناس؟ وماذا ستفعل كلماتهم؟ كلّ يتحدث على شاكلته، وأنا لم أفتي في الدين ولم آتِ بجديد.. كل الأمر أننا لم نكرر أسطوانات الفضيلة المبتدعة التي نحب أن نسمعها حتى نقنع أنفسننا بأننا أنصار الله وأحباؤه، ندخن السجائر ونشتم تلك التي تقول بأن النقاب ليس فرضاً.
بضعة أيام وترسل لي صديقة رسالة خاصة، تلتمس فيها أن أباعد بين مقالاتي التي تستفز بعض الناس وإن كانت تتفق معي، تقول لقد آذوني بكلامهم وتعرضهم لك بسيء الألفاظ. حتى ذلك الحين أيضاً لم أكن قد تعمقت في متابعة التعليقات. قلت سأذهب وأرى، واضح أن الأذى صريح هذه المرة. وسأسرد لكم بعضاً من التعليقات بدون ذكر أسماء أصحابها طبعاً:
– "المشكل ليس فيها بل في الحثالات من تتفاعل مع تخريطتها.. سواء بالنقد او الايجاب..اميتو النجاسات بالسكوت عنها".
– "واحدة ضالة وجاهلة، ماهو أمثالها اللي بيخلوا بعض الرجالة يقولوا الحريم مالهمش غير القعدة في البيت".
– "عندما تتكلم الرويبضه".
– "حسبى الله ونعم الوكيل فيمن كتب ونشر هذا الكلام وفيمن رضى به أيضا".
– "ماذا أقول في هذه الليلة المباركة سوى لعنة الله عليك…".
قرأت هذه التعليقات صباحاً، ليست سوى جزء بسيط من عشرات أخرى، محتواها هو السب والشتم واللعن من الأتقياء والتقيات، أصحاب الإيمان الطاغي، الذين لم يهُن عليهم أن يقول أحدهم بأن النقاب ليس فرضاً، وأننا أسأنا للدين بدلاً من خدمته عندما تحولنا إلى كائنات لا تعرف منه إلا النقاب والذقن ودعاء دخول الخلاء. ونسيت تعليقاً لأحدهم أثار ضحكي في الحقيقة، يقول شيئاً من قبيل: إن النقاب فرض عند مخافة الفتنة وأنت لا تخافين الفتنة بالطبع لأنك وحشة فلا بأس. لا أعرف هل اعتقد فعلاً أنه بهذه الحجة البالغة قد أفحمني أم أنها مجرد طريقة أخرى للأذى..
كما في كل مرة تتكرر فيها هذه الاعتداءات اللفظية لا أتوجه سوى لله وحده، خاطبته في نفسي، قلت له: اللهم إنك تعلم أنهم ظالمون معتدون، وتعلم أنني ما فعلت ولا قلت إلا نصرة لك ولما عرفته بك من الحق، لا تخرج مني الكلمة إلا مسبوقة بدعاء أن ربِّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقوا قولي، لا يهمني ما قيل وما سيُقال، ولا أبالي بالشتائم واللعنات، فارضَ عنّي ولا تكتبني مع الخاسرين، الذين ساء ما كانوا يفعلون.
قضيت اليوم أفكر في نفسي، لولا فضل الله علي ومكرمته لكنت تركت لهم دينهم الذي يدعون، وهل من أمّة يدّعي من ينسبون لأنفسهم قمة سنام الفضل فيها أنهم الهداة المهتدون، ثم ينقضون على الناس بالتخويف والترهيب والشتائم والأحكام؟
هل هذه أمة أنظر لها من الخارج وأقول، نعم فعلاً هذه خير أمة أخرجت للناس؟ أتحسر على حالي وحالها وأفتح مصحفي دون سابق تخطيط لما سأقرأ فتطالعيني: "وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا"، حتى آخر الكهف.. أقول وهل من كهف يا إلهي نأوي إليه؟ وهل من سبات عميق يأخذنا حتى نستيقظ في يوم ما وقد عبدك الناس حق عبادتك وقدروك وقدروا دينك حق قدره؟
ولكن لا أعتقد أن لنا كهفاً، لعل مصيرنا في: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا". فما نكتب ولا نتكلم ولا نربي ولا نعلم حتى نغنم زينة هذه الحياة، ولا لنتبع هوانا وراحتنا واحساسنا المزيف بالتقوى، اجعلنا يا رب في صلاة دائمة وذكر لا ينقطع. اجعلنا ممن يعرف أن من ترك ملك، ومن وجه وجهه إليك ألفى الحياة تحبو وراء ظهره. ولا تجعلنا يا رب من أولئك "الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا". يستهينون، يقولون الهمز واللمز من اللمم، وأنت تقول: ويلٌ لكل همزة لمزة.
هل نحن مسلمون حقاً؟ لم أعُد أعرف حقيقة، سأجد طبعاً من يطلع ليشتمني ويقول لي: "مسلمين غصبن عنك، وإذا إنت عندك مشاكل لا تبلينا فيها، ضالة مضلة". ولا أعرف لماذا نخاف من أن نسأل أنفسنا هذا السؤال، هل نحن مسلمون حقاً؟ مسلمون لله بكل جوارحنا وأقوالنا وأفعالنا؟ هل ننتصر لما هو الحق أم ننتصر لما نتبنى نحن؟ هل ننتصر لدين الله؟ أم ننتصر لما نؤمن نحن به من دين الله؟ ننتصر لأنفسنا ونقول هي نصرة لدين الله؟ هل هذا ما يحدث؟ ألا يجب أن نتساءل قليلاً؟
هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة مدونات
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.