أصابني أرق طويل، فأمضيت الليلة ساهرةً لم يطرق فيها النوم جفني على الإطلاق، كان القلق سيد الموقف، وكانت الكتابة رفيقتي وقت الضيق، وتراني دائماً ممتنة للأوراق التي أمطرها حروفي المغرقة بآلامي وهمومي وغضبي، فتمتصها دون سخط تردُّد أو حتى وَجَل.
كانت تلك الليلة كئيبةً، وربما غاضبةً على من سقط من الشهداء، جالست أوراقي حتى عبر الفجر يبدد ظلام الليل، لم أدرِ كيف بدأ ذلك، لم أنتبه إلا وقد فُتحت جهنم على مصراعيها، تطاير الرصاص من كل الجهات، وهزت الانفجارات جميع أرجاء الشجاعية، فغدت وكأنها قشة معلقة في مهب الريح، تعبث بها كيف تشاء.
شرع الموت يطوف في كل مكان، وتعالى العويل ناعياً، وتهدمت البيوت على رؤوس ساكنيها، فطفق الناس يفرُّون إلى جميع الاتجاهات، سارعت أيضاً للفرار، بعد أن حاولت جمع شتات عائلتي، لم أتذكر أن أحمل معي شيئاً، فلا شيء أعز من الروح.
بحثت عن أمي وأنا أهذي، وأحكمت قبضتي على يد أخي الصغير "ظافر"، لا أعلم أين ذهب أبي، أو في أي مكان أجد "أسماء"، أو أين هو "عمر"..؟! عشرات؛ بل آلاف، ربما ملايين الأسئلة طرقت عقلي بعنف دفعة واحدة.. ماذا يجري بحق الإله؟! أهي القيامة قد قامت؟! لم كل هذا الرصاص والصواريخ وقذائف الدبابات التي تسقط فوق رؤوسنا كحجارة من سجيل؟! أهو يوم الحشر؟!
يا إلهي، يجب أن نخرج بسرعة، ها هي البيوت حولنا تتحول إلى ركام واحداً تلو الآخر، وسنغدو ركاماً مثلها إن لم نحثَّ الخطى.. هربت أنا و"ظافر" وأمي، تعثَّرنا بجثث ملقاة على الطريق مزقها القصف الظالم وشوه معالمها بشكل بشع، عرفنا البعض، وجهلنا الكثير.. ربي سامحنا، فليس بمقدورنا أن نكرم هؤلاء الموتى، ولا حتى أن نترك لأنفسنا فسحة صغيرة لأن نحزن في ذلك الوقت العصيب.
شاهدت بأمِّ عيني الناس يفرّون سيراً على الأقدام وكأنهم أصيبوا بالجنون، حتى من كان يسقط منهم، لم يكن ينتبه له أحد، يهربون دون أن يصدق أحدٌ منهم ما تراه عيناه، فربما يكون هذا مجرد كابوس مرعب لن يفتأ وينجلي.
شاهدت زوجة عمي تهرول مشدوهة، كمجنونة فقدت عقلها تريد الفرار بنفسها، تخبّئ رأسها بين ذراعيها، سمعتها تنوح بصوت مرتفع.
أما جارتنا "أم سالم"، فكانت تتعثر بمشيها وتلطم وجهها وتندب وحيدها "سالم"، وتولّي هاربةً أيضاً وهي تنظر خلفها كأنها تستحث آخرين ليلحقوا بها.. وشاهدت عمتي وزوجها حالهم كما الآخرون.
أما "أنيسة" الفتاة العشرينية قعيدة الكرسي المتحرك، فقد نزفت ساقها بغزارة بعد أن بترت قذيفة قدمها، ورغم ذلك كانت تحرك عجلات كرسيها بسرعة وتفر مع الفارين.. لم يتطوع أحد لمساعدتها، حرقت قلبي، تمنيت لو أن بإمكاني إيصالها للمشفى، أو حتى لأي مكان آمن، ولكن لم يكن باليد حيلة، الجميع يفرون بأنفسهم وكأن أحد منهم لا يعرف الآخر!
كان هناك كثيرون يتكدسون بعضهم فوق بعض داخل سيارات صغيرة وشاحنات انطلقت مبتعدة عن الشجاعية.
وهز كياني منظر جثة الشيخ الحاج "عبد الكريم" ملقاةً وسط الشارع ممزقة الصدر، استشهد المسكين وهو يحاول الفرار، ولكن الشهادة كانت بانتظاره.. حتى سيارات الإسعاف لم تَسلم من عدوانهم، فقد شاهدت بعضها مدمَّرةً على قارعة الطريق.
وكان الصحفيون يركضون معنا يحملون كاميراتهم التي ترصد الموت وتوثق الدمار، ولم يَسلموا هم أيضاً من العدوان، فقد رأيت صحفياً يرتدي لباس الصحفيين ومكتوباً على صدره كلمة "صحافة" بالإنكليزية، كان ذاك الصحفي ممزق الكتف محترق الوجه ممدَّداً على الأرض فوق بقعة حمراء قانية.
أما ذلك الطفل الذي لم يتجاوز السادسة من عمره والذي كان يركض باتجاه الشجاعية ويصرخ بملء فيه: ماما.. ماما.. ماما، أين أنتِ؟ ثم ما يلبث ويعود للاتجاه الذي تسلكه مجموعات كبيرة من الناس، فيقف وهلةً يجول نظره بين الوجوه، وعندما لا يجد أمه يعود للاتجاه المعاكس مرة أخرى ويعيد الكرة ذاتها فقد أبكاني بحسرة، ودعوت له أن يعثر على والدته.
وبالقرب من إحدى الأشجار، استلقت جثةٌ متفحمةٌ لامرأة، إلى جانبها طفل ما زالت قبضتها تمسك به بإحكام.. يا للمسكينة! عاجلتها الشهادة قبل أن تستطيع الفرار بصغيرها إلى الحياة.
ومشاهد أخرى كثيرة غيرها، تركت في قلبي ندبة لا أظنها تزول أبداً ما حييت، وأنا الكبيرة الناضجة، فكيف بالأطفال الصغار الذين شاهدوا أمهاتهم وآباءهم وإخوتهم ممزقون أمام أعينهم! هل -يا ترى- يستطيعون متابعة حياتهم دون أن تطرق تلك الصور البشعة عقولهم؟! وكيف لهم أن يحيوا كأي طفل طبيعي عاش طفولته بأمان؟! سيكون حالهم كحال النار التي يشعلها الطغاة ويقولوا لها: لا تضطرمي، فهل -يا تُرى- ستستجيب لأوامرهم؟ لا أخال ذلك ممكناً.
فالويل لمحتل غاصب من طفل فرَّ من مجزرة الشجاعية وشاهد ما شاهد؛ ابتداءً من بيته، وصولاً إلى ملجئه بمدارس وكالة الغوث في غزة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.