هذا المقال ختام سلسلة نستعرض فيها تاريخ حقبة الخلافة الراشدة والخلفاء الراشدين: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان. وهذا تمامها بالحديث عن خلافة سيدنا ومولانا وإمامنا علي بن أبي طالب.
لقد تولَّى الخلافة في وقت عصيب مضطرب؛ حيث صارت العاصمة فعليًّا تحت أيدي أهل الفتنة، والأمور قد خرجت من أيدي كبار الصحابة؛ فكانت المهمَّة الأولى إعادة الهدوء والاستقرار إلى الدولة.
ولم يُخالف علي – رضي الله عنه- الخلفاء الراشدين من قبله في تأصيل الأسس التي سيحكم بها؛ فالمرجعية للقرآن والسُّنَّة، والخليفة اختيار من الأُمَّة، وهو وكيل عن الناس في إدارة أمورهم، وللأُمَّة أن تخالفه وتقاوم انحرافه عن المنهج، والحكم يكون بالشورى، والعدل بين الناس هو واجب الخليفة.
وقد واصلت مؤسَّسات الدولة نموَّها وتطوُّرها في عهد الخليفة علي بن أبي طالب – رضي الله عنه- لا سيما وقد كان هو نفسه أحد كبار فقهاء الصحابة، وله اجتهادات وقرارات ضبطت مسار الأحكام والإجراءات ونموَّ مؤسَّسات الدولة في الاقتصاد والقضاء والإدارة وغيرها.
لكن الذي غلب على تاريخ أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه- هو الأزمة السياسية الهائلة التي بدأت في عهد عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وكانت أولى بوادر هذه الأزمة هي الرغبة القوية في سرعة القصاص من قتلة عثمان، وهو ما كان مستحيلاً في هذه اللحظات الأولى من الحكم.
والأمر لم يستقرّ بعدُ، وكثير من أهل الفتنة ما زالوا موجودين في المدينة، غير أن وجهة النظر الأخرى هي أن القصاص منهم ممكن ولو تكلَّف حربًا شاملة، وأن هذا الواجب مُقَدَّم على كل ما عداه، بل وصل الأمر بالبعض – وهو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه- ألا يبايع عليًّا ولا يعترف بشرعيته حتى يأخذ القصاص من قتلة عثمان، وهو يطالب بهذا لأنه ولي الدم لا رفضًا لعلي ولا انتقاصًا منه؛ فالوضع كما يقول ابن حزم:
"لم ينكر معاوية قطُّ فضل علي واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أدَّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان – رضي الله عنه- على البيعة، ورأى نفسه أحقَّ بطلب دم عثمان"(1).
كذلك اجتهد فريق من الصحابة على رأسهم أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها- ومعها اثنان من كبار الصحابة المبشَّرين بالجنة؛ وهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، وكان اجتهادهم أن يستعينوا بأهل الأمصار خارج المدينة في الاجتماع مع علي – رضي الله عنه- لأخذ القصاص من قتلة عثمان، وتكوين حشد شعبي ضاغط يجعل نبذهم والقصاص منهم أمرًا سهلاً حين تقف الأُمَّة كلها وراء علي فيه.
وانضمَّ كل راغب في تأديب أهل الفتنة والقصاص لعثمان إلى هذه الحركة وهذا الجيش بزعامة عائشة وطلحة والزبير – رضي الله عنهم-، وتوجَّهوا نحو البصرة -حيث كانت العراق من معاقل أولئك المجرمين- وسيطروا عليها، ونشبت حرب بينهم وبين بعض أهل الفتنة وانتصروا عليهم، وبدأت الأمور تتفلَّت تمامًا من يد أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه-، وهو ما لم يكن في الإمكان تركه أو السكوت عنه؛ ففيه انهيار الخلافة ودولة الإسلام كلها.
لا يُفْصِح السرد الموجز عن المشكلة وتعقُّدها وتفاصيلها؛ وقد كانت معقَّدة بحقٍّ إلى حدِّ أن خيرة عقول الأُمَّة ونفوسها -وهم الصحابة- اختلفوا في الأمر؛ حتى وقع بينهم قتال، لشدَّة ما كانت وجهات النظر تعتمد على منطق وجيه لدى كل الأطراف؛ حتى اعتقد جميع مَنْ شارك في الخلاف أن معه الحقَّ الكامل الذي لا يسعه أن يتنازل عنه أو أن يُفَرِّط فيه، واعتزل بعض الصحابة هذه الفتنة؛ إذ لم يتبيَّن لهم وجه الحقِّ فيها، على الرغم من أنهم عبقريات عقلية نادرة، ونفوس زكية كبيرة؛ مثل سعد بن أبي وقاص، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عمر… وغيرهم.
لقد جمع جيش عائشة وطلحة والزبير – رضي الله عنهم- كلَّ مَنْ رأى أن القصاص من قتلة عثمان واجب عاجل، وكلَّ مَنْ حسب أنه قد فرَّط وتخلَّى عن عثمان ولم يقف مدافعًا عنه كما يجب، فقرَّر الخليفة نقل مقرِّ الحكم إلى الكوفة، وخرج بقوَّاته إليها، وانضمَّ إليه كلُّ مَنْ رأى الوقوف مع الخليفة علي، وأنه الأحق بإدارة الدولة وترتيب أمر القصاص ومراعاة الأولويات، وإلاَّ سينهار كيان الخلافة، ويكون لكلِّ مَنْ رأى الحقَّ في جانب أن يتجاوز الخليفة الشرعي في إقامته، بينما ظلَّ قسم ثالث من الناس في حيرة بين الموقفين وآثر الاعتزال في هذه الفتنة.
دارت حوارات وتفاهمات بين جانب علي وجانب عائشة وطلحة والزبير، ونجحت سفارة القعقاع بن عمرو التميمي في توصيل وجهات النظر الواضحة من علي – رضي الله عنه- إلى عائشة وطلحة والزبير – رضي الله عنهم-، وكان قد ثبت أن مسار الطائفة الثانية لم يُؤَدِّ إلى حلِّ المشكلة؛ بل زاد في تعقُّدها بعد أن تعصَّبت بعض القبائل لأبنائها ممن قتلوا عثمان؛ مما أشار إلى زيادة الاشتعال، وهو ما كان يُثبت صحَّة رأي علي – رضي الله عنه-، وهنا تمَّ الاتفاق بين الفريقين، فعمَّ الهدوء، وبات الفريقان في أهدأ حال وفي أنعم ليلة.
مثل هذا الاتفاق كان يمثِّل ضربة قوية لأصحاب الفتنة وخططهم، ولا سيما لمَنْ شارك في قتل عثمان الذين علموا أن الخلاف بين الفريقين ليس إلَّا مسألة وقت وأولويات، فتحرَّكوا في سواد الليل، واندسوا بين الفريقين، وقتلوا من الفريقين ثم صاحوا: غدر القوم. فاضطربت الأمور وذهبت إلى الاشتعال، وأهل الفتنة يُشعلونها حتى خرج الوضع عن السيطرة، وانفلتت الأحوال تمامًا، ولم يَعُدْ علي ومَنْ معه يُسيطرون على معسكرهم، وكذلك لم تَعُدْ عائشة وطلحة والزبير ومَنْ معهم يُسيطرون على معسكرهم، وضاعت أصوات العقلاء بين الأشلاء والدماء، ونشبت أول معركة إسلامية- إسلامية في التاريخ الإسلامي (الجمعة: 16 من جمادى الآخرة 36هـ).. تلك هي معركة الجمل!
وقد سميت معركة الجمل لأن عائشة – رضي الله عنها- كانت في هودج على جمل، وكان هذا الهودج يمثِّل "لواء المعركة" وعنوانها ورمزها، فما دام ظلَّ قائمًا كان القتال دائرًا عليه ملتهبًا حوله؛ فريقُ الفتنة يُريد قتل عائشة لتنتهي المعركة لصالحهم، والفريق الآخر يقتتل لئلا تُقتل أم المؤمنين وحبيبة رسول الله وأفقه نساء العالمين، ولم يَعُدْ من حلٍّ إلَّا أنَّ أرسل علي فرقة خاصة من جيشه قتلت هذا الجمل، وأخرجت عائشة من بين الحرب في حراستها، وعندئذٍ فقط انتهت المعركة، التي أسفرت عن مقتل طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، ومئات القتلى من الفريقين، بعد أن فشلت كل جهود العقلاء في الطائفتين في وقف القتال وإنهائه.
أسفرت معركة الجمل عن اجتماع الأُمَّة خلف علي – رضي الله عنه-، وإن كان الثمن فادحًا، ما عدا تلك الأزمة الأصيلة التي نشبت أولاً؛ وهي امتناع معاوية بن أبي سفيان عن البيعة إلَّا بعد القصاص لعثمان، رضي الله عنه.
كان معاوية – رضي الله عنه- واليًا على الشام منذ عهد عمر بن الخطاب، وكان سياسيًّا فذًّا؛ ذكاءً وحكمةً وحلمًا؛ حتى تعلَّق به أهل الشام وأحبُّوه حبًّا جمًّا، وأهل الشام منذ كانوا أهلَ قوَّة وفتوة وإيمان ونجدة، فهم منذ رأوا قميص عثمان الملطخ بالدماء، وأصابع زوجته المقطوعة حين كانت تُدافع عنه وقد امتلأوا عزمًا صادقًا على السير في أخذ القصاص لعثمان خلف أميرهم ولي الدم إلى نهاية المطاف.
ولم يكن علي – رضي الله عنه- بالذي يسمح بتكرار انفلات الولايات من بين يديه، والذي يُنذر بوقوع معارك أخرى أيضًا، ومن المهم القول هنا إن أهل السُّنَّة مجمعون على أن الخلافات التي كانت بين علي وغيره من الصحابة كان الحقُّ فيها إلى جانب علي، وأن مخالفيه هم المجتهدون المخطئون.
عزم علي على غزو الشام وجهَّز جيشًا له، وما إن وصلت الأنباء إلى الشام حتى جهز معاوية جيشًا من أهل الشام، ثم وقعت المعركة الثانية الإسلامية- الإسلامية، وهي موقعة صفين، وفيها اقتتل الجيشان قتالاً هائلاً مريرًا بعد اشتباكات متفرِّقة، فما هو إلَّا أن أدرك الفريقان أن هذه الحرب ما لم تنتهِ في أسرع وقت فلن تنتهي إلَّا وقد فني الجيشان؛ وهما عدة الإسلام ورجاله وقوته الضاربة، فهلاك هؤلاء الناس ضربة في قلب الدولة الإسلامية ذاتها؛ فسعى الساعون في إيقاف القتال، فتفتقت الأذهان عن فكرة رفع المصاحف على الرماح، وطلب الاحتكام! فوافق الطرفان وقد نزل بهما من البلاء ما لم يتوقَّعه أحد منهما!
وكان من أهمِّ ما أسفر عنه القتال هو استشهاد الصحابي الجليل عمار بن ياسر، وكان لاستشهاده معنى أعمق وأكبر من كونه صحابيًا من السابقين؛ ذلك أن النبي قال عن عمار: "تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ" (2). فلما قُتِل عمار شاع هذا القول بين الجيشين، وكان هذا القول كفيلاً بأن ينتهي النزاع، لو أن الأمر لم يصل إلى الحرب، أمَّا في حالة الحرب ونفوس الناس فيها فقد كان الأمر مختلفًا، فما إن بلغ هذا القول معاوية حتى قال: "قتله مَنْ جاء به". وهو التأويل الذي يُجمع العلماء على رفضه وفساده، ولكن أجواء الحرب جعلت كلَّ فريق متمسكًا بما هو عليه، ولقد اقتنع أهل الشام بهذا التأويل على الرغم من وضوح ضعفه، فاستمرَّت الحرب حتى لجأ الناس إلى التحكيم.
كلف عليٌّ أبا موسى الأشعري أن يكون ممثِّله في التحكيم، وكلَّف معاوية عمرو بن العاص أن يكون ممثِّله، ووُضعت شروط للتحكيم والصلح، ولم يكن هذا التحكيم على تنازل عليٍّ عن الخلافة أو تثبيت معاوية؛ فهذا أمر لم يكن واردًا، إذ لم يُشَكِّك أحد في خلافة علي في الأساس، ولم يكن أحد يدعو إلى خلافة معاوية، وفي التحكيم روايات كثيرة ضعيفة شوَّهت مواقف الصحابة وتاريخهم، وإنما كان التحكيم لينظر الحكماء في سبيل الخروج من الأزمة التي سالت فيها دماء المسلمين، وقد اتفق الفريقان على موعد وشروط للحكم بينهما بعد وقت، لكن هذا الأمر انتهى إلى الفشل، وظلَّت الأوضاع على أحوالها.
لكن ثمة أثرًا لم يتوقعه أحد لقبول التحكيم؛ ذلك هو انسحاب بضعة آلاف من جيش علي – رضي الله عنه- معترضين على التحكيم، ومعلنين أن هذه الطريقة غير شرعية ومخالفة لكتاب الله، ولقد كان هؤلاء من القرَّاء والحفظة لكتاب الله؛ لكن لم يكن لديهم من الفقه إلَّا القدر القليل، فأصبح هؤلاء فتنة جديدة في معسكر علي – رضي الله عنه-، وتركوا الكوفة وانحازوا إلى منطقة "حروراء" في العراق، وكانوا شوكة أخرى في جانب الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب.
وكانت حركة الخوارج أول حركة معارضة في تاريخ الإسلام، وقد حدَّدت سياسة علي – رضي الله عنه – معها كيف تكون سياسة الحاكم المسلم مع حركات المعارضة؛ فقد بذل لهم النصح، وأوفد إليهم سفيرًا كالحبر عبد الله بن عباس، فعاد بالكثير عن انحرافهم الفكري والعلمي، وتعهَّد علي ألَّا يتعرَّض إليهم أحد، وألا يُحرموا حقوقهم إلَّا أن يحملوا السلاح على المسلمين، أو يرتكبوا جرائم، وقد وفَّى لهم بعهده ولم يقاتلهم، على الرغم من أنهم كانوا يُكَفِّرُونه على المنابر، ويذيعون أفكارهم في التكفير بالكبيرة وما إلى ذلك؛ فلمَّا انتقل الأمر إلى حيِّز الجريمة وقتلوا من المسلمين؛ قاتلهم علي – رضي الله عنه- في معركة النهروان فهزمهم؛ لكن أمرهم لم ينتهِ تمامًا!
وقد كان تطرُّف الخوارج بيئة مناسبة لانتشار التطرُّف الآخر، ذلك التطرُّف الذي بدأ منذ عبد الله بن سبأ، وهو الغلو في علي وتعظيمه وتفضيله على سائر الصحابة؛ فقد ذاع هذا بين فريق من الناس حتى بلغ بهم أن يعتبروه الوصي والولي، ثم بلغ الأمر ببعضهم أن جعل عليًّا إلهه، وقد واجه علي هذا الغلو فيه بكل قوَّة وحسم؛ حتى لقد أحرق بالنار مَنِ اعتقدوا أنه رب، وهدَّد مَنْ يسبُّ أبا بكر وعمر بالعقوبة، وكان حريصًا في كل موطن على مواجهة هذه الأفكار وإنهائها!
وضع بعض الخوارج خطَّة لحسم كل مشكلات العالم الإسلامي من وجهة نظرهم؛ لقد اتفقوا على أن يغتالوا الثلاثة الكبار: علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، باعتبارهم "أئمة الضلال" عندهم، وحدَّدُوا لذلك ثلاثة منهم ليقوموا بالاغتيال في وقت واحد، في صلاة الفجر من يوم (17 من رمضان 40هـ)، وكانوا يعلمون أن هذا يُشبه العملية الانتحارية، لكن أحدًا لم يبالِ؛ فهذا عندهم "شرف الدنيا والآخرة، فإن نجونا شفينا أنفسنا وأدركنا ثأرنا، وإن قُتِلْنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها".
ولم تنجح الخطَّة إلَّا مع علي – رضي الله عنه- وحده، فاستشهد – رضي الله عنه- على يد عبد الرحمن بن ملجم، فيما كان عمرو بن العاص مريضًا في هذه الليلة؛ فصلى الفجر مكانه قائد الشرطة خارجة بن حذافة فقُتِل على يد عمرو بن بكر؛ وهو يظن أنه قتل عمرو بن العاص فقُتِل، وأما معاوية فقد أُصيب ولم يُقتل، واستطاع المحيطون به القبض على البرك بن عبد الله فقُتِل.
وبهذا انتهت حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه- الرجل الرابع في الإسلام فضلاً ومكانة ومقامًا ومنزلة.
وعهد أهل الكوفة بالخلافة من بعده لابنه الحسن بن علي بن أبي طالب، وجاءته البيعة من الأمصار، ثم صدق في الحسن قول جده رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ"(3). إذ تنازل عن الخلافة لمعاوية عام (41هـ)؛ الذي عُرف في التاريخ الإسلامي بعام الجماعة.
ومنذ ذلك الوقت بدأت مرحلة أخرى في التاريخ الإسلامي، مرحلة "الملك العضوض"، بعد أن انتهت مرحلة "الخلافة الراشدة"، وكانت أولى دول الملوك في الإسلام؛ هي: دولة الأمويين!
– تم نشر هذه التدوينة في موقع ساسة بوست
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.