في ذكرى نجيب الفيلسوف الأديب

لا توجد رواية أثارت اللغط والجدل في هذا الاتجاه بقدر رواية "أولاد حارتنا"، التي كانت ذروة التألق الأدبي والفلسفي والتي أنجزها وكانت عملاً مهّد لوصوله إلى عالمية من بوابة نوبل للأدب كأول عربي يحقق ذلك، وشكلت عملاً فارقاً في تاريخ الأدب العربي

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/22 الساعة 03:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/22 الساعة 03:26 بتوقيت غرينتش

الأدب مرآة لرقي الشعوب الحضاري وانعكاساً لكيميائها الاجتماعية وتفاعلاتها ومختلف مواردها القيمية والأخلاقية، ومجس لنبض عوالمها وبناه الطبقية والاقتصادية والسياسية العصيّة على الاستقراء، ولما كان الأدب صورة مصغّرة عن المجتمع، فإن الأديب هو لسان حاله المعبّر عن إيقاع الحياة بمختلف أبعادها الروحية والاجتماعية والسياسية، وهو ما أكده لوسيان غولدمان في كتابه "من أجل سوسيولوجيا روائية"، بأن على الأدب أن يعكس البنيات التحتية الاجتماعية والاقتصادية، أي تمازج البنيتين النصية والأدبية.

ويشكل نجيب محفوظ أحد أبرز الروائيين العرب الذين نجحوا من خلال أعمالهم الأدبية في مقاربة هموم وواقع الحياة المعيشية، والكشف عن البنى الاجتماعية والاقتصادية وارتباطاتها العميقة بالسلطة، مستعيناً بمهارته الفذة في العرض والتفسير العميق لتركيبة قضايا فلسفية، كالحياة والصراع الأزلي بين الطبقات الاجتماعية والسلطة والعلاقة بين العلم والدين.

الجوانب الوجودية في الأعمال الروائية لنجيب محفوظ

بدأ نجيب محفوظ حياته العلمية دارساً للفلسفة وشارحاً لمدارسها واتجاهاتها الفكرية، فمنذ نشأته المبكرة ظل عقله يعتمل بالأسئلة والأفكار الفلسفية المتمحورة حول الخلق وأصل الوجود وماهية الحياة وهموم الإنسان، وحينما لم يجد أجوبة تشفي غليله اكتشف ميله الحاد إلى الأدب وحوّله إلى ميدان خصب لممارسة التفلسف.

وبذلك، انطلقت محطة جديدة في مساره المهني كأديب استطاع المزواجة بين السرد الروائي والتاريخ والفلسفة، مشكِّلاً بذلك خطاً أدبياً فاصلاً في تاريخ الأدب العربي الحديث، ولعله يعد أول روائي عربي حوّل الرواية إلى أطروحة فلسفية، يعالج من خلالها القضايا الميتافيزيقية والخوض في الإلهيات، معيداً صياغة قصة الوجود بأسلوب روائي رصين.

عادةً ما يميز النقاد في أعمال نجيب محفوظ الأدبية بين مراحل متباينة الخصائص والتوجهات، دشنها بمرحلة الرواية التاريخية ورصد الأقدار ومفارقات الحياة كما في روايات مصر القديمة و"كفاح طيبة" وغيرها، ثم تحول بعدها إلى الواقعية وهي أجمل مراحل حياته الأدبية، حيث رسم فيها تفاصيل الواقع المصري إبان العهد الملكي كما في رائعة "القاهرة الجديدة" و"خان الخليلي"، ويعتبر التحول نحو الرمزية -أي التمثيل الرمزي للواقع- نقلة نوعية في مساره الأدبي، مزاوجاً بين مطارحته الفلسفية وتصوراته للحياة والوجود والواقع بكل أبعاده في قوالب روائية سردية وبلغة تعبيرية بسيطة خالية من التعقيدات المجازية.

ولا توجد رواية أثارت اللغط والجدل في هذا الاتجاه بقدر رواية "أولاد حارتنا"، التي كانت ذروة التألق الأدبي والفلسفي والتي أنجزها وكانت عملاً مهّد لوصوله إلى عالمية من بوابة نوبل للأدب كأول عربي يحقق ذلك، وشكلت عملاً فارقاً في تاريخ الأدب العربي؛ لمزجها الفريد بين السرد التاريخي والمضمون الفلسفي الباطني لقصة الوجود البشري عبر التاريخ، والتي كاد أن يدفع حياته ثمناً لها، بعد اتهامه بالإساءة إلى الذات الإلهية وتجسيدها في شخصية "الجبلاوي" وتوظيف الرموز الدينية من الأنبياء كشخوص رئيسية وأبطال لأحداثها.

فبين ثنايا الرواية وعبر أحداثها المتتالية، تتكشف تأملات وجودية عميقة حول إيقاع الوجود ولحنه الأساس الذي يطبعه منطق التدافع، كالصراع الأزلي بين الظلم والعدل، بين "أدهم" الذي يرمز إلى آدم، وإدريس الذي يرمز إلى "إبليس"، وعن الصدام بين الخير والشر، وقصة الصراع بين المستضعفين ومخلصيهم من الأنبياء من جهة والمستكبرين من الطغاة والفتوات وجلاوزتهم، تتكشف معها محطات مسار التاريخ البشري وأنساقه من الإنسان الأول آدم/أدهم في الرواية إلى الإنسان الأخير المعاصر الذي يعبّر عنه بشخصية "عرفة".

وتنتهي قصة "أولاد حارتنا" أو قصة البشرية في نظر محفوظ بتأكيد أهمية الإيمان والتشبث بقيمة الأمل في التغيير وضرورة المبادرة لمواجهة الاستبداد والظلم الاجتماعي وإحقاق الحق والعدل، وضرورة اعتبار العلم استمراراً للنبوة وتجديداً للإيمان، وباتحادهما ستدرك الإنسانية غايتها وهو ما عبر عنه بـ"رضا الجبلاوي"، الذي يرمز إلى الدين عن "عرفة" رمز العلم والمعرفة.

و في روايات أخرى، كما في "الشحاذ" و"اللص والكلاب"، ظلت النزعة الفلسفية حاضرة ومتجسدة بقوة في العديد من الشخصيات الرمزية التي عبرت عن تأملاته العميقة حول أزمات الوجودية للإنسان المعاصر وحيرته وقلقه المستمر حول عبثية الحياة ومفارقتها وغموض معانيها والصراع بين الروح والمادة وبين المبادئ والمصالح.

السلطة في روايات نجيب محفوظ

قاد تبلور الوعي السياسي لدى نجيب محفوظ واقتناعه بعمق التناقضات الاجتماعية وانحراف السلطة عن قيم العدالة الاجتماعية وخيبة الأمل التي أصابته- إلى تبنّيه الاتجاه الرمزي في أعماله الروائية والتخلي عن طابع الواقعية؛ لتجنّب الصدام المباشر مع السلطة وممارسة حقه المشروع في النقد الاجتماعي كمثقف ملتزم ومهموم بقضايا مجتمعه.

ففي العديد من روايته، مثل "اللص والكلاب" ورواية "يوم قُتل الزعيم" وغيرها، تظل تيمة السلطة حاضرة بمختلف تجلياتها، فمن خلال أحداثها وتفاعلات شخوصها دُست الكثير من المواقف السياسية الناقمة على سوء الأوضاع الاجتماعية وخيبة أمله في الأيديولوجية الرسمية التي انقلبت من الدعوة للمساواة والعدالة الاجتماعية إلى ترسيخ التفاوت والاستغلال الطبقي.

ومن جهة أخرى، تجسد رواية "يوم قتل الزعيم" حالة المعاناة واليأس والاحتقان الاجتماعي في زمن المفارقات والتناقضات والضياع والاحساس بدونية الحياة، والتي عكست حجم الوعي المحفوظي بأزمة المجتمع المصري العميقة وتردي قيمه بعد نهج السلطة سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي زادت من اتساع الهوة بين طبقة المترفين وطبقات المهمشين بفعل الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي قضت على التوازن الاجتماعي الهش وألقت معها الإنسان البسيط إلى غياهب الفقر المدقع.

وإن أهم ما يسترعي الانتباه في العديد من أعمال نجيب محفوظ الروائية، هو ديكور والفضاءات التي اتسمت ببساطتها وانحصارها في أماكن من قبيل المقاهي والفنادق والحواري وتوظيفه شخوصاً من عالم المهمَّشين الذين انحاز إليهم وآمن بقدرتهم على إحداث ذلك التغيير الاجتماعي المنشود والتمرد على الواقع، ولعل عظمة النجيب تجلت بوضوح في هذه السمة البارزة، فعلى الرغم من اقتصاره على بيئته المحلية، المتمثلة في حواري القاهرة وعوالمها، فإنه استطاع أن يعالج من خلالها قضايا إنسانية كونية تتجاوز مفهوم الزمان والمكان وبمقاربة لامست أبعاداً وجودية وسياسية متفردة.

ارتبط الإنتاج الأدبي لنجيب بإيمانه العميق بتيمة الأمل في الخلاص عبر التمسك بالنزعة الثورية لتحقيق العدل والحرية والمساواة وبالإيمان بقدرة المهمشين على مقاومة جميع أشكال الظلم ومواجهة الاستبداد، سواء كان باسم الدين كما في رواية "أولاد حارتنا" أو في "ملحمة الحرافيش"، أو باسم السياسة كما في رواياته التاريخية "كفاح طيبة" و"الكرنك"، أو الاستبداد العسكري، داعياً بذلك إلى خلق مساحات من الوعي الاجتماعي بضرورة تحقيق الديمقراطية وإعادة رسم علاقة جديدة بين السلطة والمجتمع.

وختاماً، كان هذا العرض رحلة مشوقة إلى العوالم الباطنية في فكر الأديب العالمي نجيب محفوظ، الذي أجاد المزج بين جمالية السرد الروائي بالتعبير عن أنين وهموم وتطلعات الإنسان الكادح، والكشف بعمق عن فلسفة الوجود والحياة المعاصرة وطبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع وبين الدين والعلم، مسهماً بذلك في إثراء الأدب العربي بتحف روائية ستظل عصيّة على النسيان والإهمال ونبراساً ينير طريق الحالمين نحو غد أفضل.

المصادر:
– "التحريض والتثوير في روايات نجيب محفوظ"، هويدا صالح، عن موقع "الحوار المتمدن ".
– "كيف رأى نجيب محفوظ السُلطة في رواياته؟"، أنس الشعرة، مقال منشور في موقع "إضاءات".
– "رحلة الشك.. نجيب محفوظ من الفلسفة إلى الأدب"، إبراهيم هلال، مقال منشور في "مدونات ميدان".

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد