ليس الهدف من هذا المقال هو سرد أحداث غزوة مؤتة التي لا يكاد يجهلها مسلم، لكن لكل غزوة من غزوات الرسول ﷺ رسائل خاصة لأمته ومنهج يسيرون عليه إذا كانوا في ظروف معينة، وبقدر التعمق في دراسة كل غزوة من ناحية الأحداث والوقائع والظروف التي وقعت فيها يستطيع الباحث أن يستنبط هذه الرسائل.
لغزوة مؤتة عدة نقاط لا تشترك فيها مع أي غزوة أخرى وهي:
– الغزوة الأولى بين المسلمين العرب (الدولة الأكثر فقراً والأضعف) والروم (الدولة العظمى والأقوى وصاحبة الحضارة والنفوذ)، العرب لا يجيدون إلا حروب القبائل والكر والفر، والروم لهم جيش عرمرم خبر حروباً عظيمة مع جيوش مختلفة على رأسها جيش الدولة العظمى الثانية آنذاك وهي دولة الفرس.
– الغزوة الوحيدة التي وصلت فيها نسبة جيش المسلمين إلى جيش عدوهم 1: 67، بمعني أن تعداد جيش الروم 67 ضعف تعداد جيش المسلمين!! وهي نسبة لا يمكن أن يقبلها أي محلل عسكري في هذا العصر الذي نعيشه.
– من ناحية قوة العتاد فجند دولة الروم العظمى كانوا يقاتلون بالحديد بينما لم يكن للمسلمين غير دروع خفيفة، وأما عن السلاح فسيوف المسلمين في صلابتها وصناعتها البدائية لم تكن لتقارن بسيوف الروم أصحاب القوة وأهل الحرب آنذاك، حتى إنه يُحكى أن خالد بن الوليد تحطم في يده 9 سيوف أثناء المعركة ولم تصمد معه إلا صفيحة يمانية.
– لم يحضر رسول الله ﷺ هذه الغزوة على الرغم من أهميتها (إذا قيست هذه الأهمية بقوة الخصم فيها).
– الغزوة الوحيدة التي أذاعها الرسول ﷺ للصحابة في المدينة بالبث المباشر وقت حدوثها بتفاصيل دقيقة إشارة لأهميتها!
– الغزوة الوحيدة التي سمى فيها رسول الله ﷺ ثلاثة قيادات متتالية للجيش وليس قائداً واحداً، (كان أولهم حِبّه ومن كان ينادى بابنه وهو زيد بن حارثة، والثاني بن عمه الحبيب جعفر بن أبي طالب والثالث واحد من اثني عشر نقيباً من أصحاب بيعة العقبة الأولى وهو عبد الله بن رواحة)، ثم اصطلح المسلمون على سيف الله المسلول خالد بن الوليد بعد استشهاد الثلاثة.
– سببها قتل شخص واحد فقط وهو رسول رسول الله ﷺ وهو عمير بن الحارث الأزدي، قتله شرحبيل بن عمرو الغساني (عامل القيصر على بلقاء الشام) فحرك صلى الله عليه وسلم جيش المسلمين رداً على ذلك.
– استمرت الغزوة لستة أيام متتالية وهذا لم يحدث في غزوة من قبل، ولا تقارن بغزوة الخندق، فلا يقارن دوام القتال بالحصار.
– هذه الغزوة الوحيدة التي انتهت بشكل عجيب، ظن عوام المسلمين آنذاك أن الجيش قد فر وانسحب وتراجع، فكانت حتى نتيجتها محيرة وغير واضحة إلا بعد أن أثبت نتيجتها رسول الله ﷺ بنفسه، وهي الانتصار للمسلمين، فقد كان نصراً عظيماً بالفعل.
ومن هذه النقاط السابقة يمكن أن نستنتج ما يلي:
– يعلم رسول الله ﷺ أن جُلّ حروب المسلمين بعد وفاته ستكون مع أعداء من الخارج، وقد ظهر ذلك حقيقةً في كل الحروب بعد ذلك، بداية من فتوحات الروم وفارس وشمال أفريقيا، والحروب الصليبية والمغول وفتوحات أوروبا، في كل هذه الحروب كانت (وستكون) الجيوش المعادية أكثر عدة وعتاداً وقوة بكل الحسابات العقلية الدنيوية والعلمية والحضارية، ولابد ألا يوقف ذلك المسلمين حتى لو كانت نسبة العدو 67 ضعفاً من قوة المسلمين (وأقل النسب لأضعف المسلمين إيماناً قد ذكرها الله في سورة الأنفال وهي نسبة 1 : 2، وهذا لضعاف الإيمان فقط، أي أن الكثرة ليست شرطاً على الإطلاق ولا حتى المساواة في القوة، فأحيانًا ينسى المسلمون مقدار القوة التي تمثلها عقيدتهم وإيمانهم بالله، وينسون أن لله جنود السموات والأرض، يفكرون فقط كما يفكر الإنسان المادي غير المسلم أن هناك معادلة واحدة فقط وهي 1 + 1 = 2!! وينسون أن وجود الله الواحد في صفهم لا يساوي واحد عددي، ولا يمكن أن تُحسب قوته وقدرته طبقاً لعلم الرياضيات الوضعي العاجز!)
– لم تثنِ كل تلك الحقائق رسول الله ﷺ في أن يتحرك مطالباً بالحق ومصارعاً للباطل، حتى لو كان هذا الحق هو حق دم امرئ مسلم واحد، نعم واحد فقط، إنها عزة المسلم وقدره عند الله تعالى، حتى لو قُتل آخرون في هذا الطريق، فمن يُقتل صابراً محتسباً مدافعاً عن حق ودين فهو بإذن الله من الفائزين ولا يُحسب قتله خسارة إذا ما قورنت بترك الظالمين الفسدة ينعمون ويَقتلون المسلمين بغير حساب!
– عدم وجود الرسول ﷺ في تلك الغزوة بنفسه له حكمه عظيمة، لو ظن البعض أن ذلك لبعد المسافة أو لضرورة وجود الرسول القائد في المدينة (عاصمة الحكم) هو أمر ضروري من الناحية السياسية إلا أن ذلك غير صحيح فقد قاد ﷺ غزوة تبوك (العسرة) بنفسه وكانت ضد الروم أيضاً، لكن عدم وجوده في غزوة (أو سرية) مثل مؤتة التي لها مثل هذه الظروف العجيبة والتباين الرهيب بين الفريقين له حكمة لأمته من بعده، هذه الأمة التي ستضطر كثيراً أن تقف مثل هذا الموقف أمام قوى عظيمة وبدون أي تقارب في موازين القوى ومع جيوش خبرت الحروب كثيراً، إلا أنه يجب على المسلمين عدم القعود، ولو كان حضر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذه الغزوة بهذه الظروف لكان الكثير من المسلمين (خاصة في زماننا) من القائلين أننا ليس بيننا رسول الله وأن انتصاره في هكذا وقائع هو من معجزات النبوة! فأبشروا فإن رسول الله ﷺ يعلم أمته ولم يترك لهم أن يتعذروا بمثل هذه الأعذار.
– لا يجب أن يقيس المسلمون النتائج العسكرية بمفهوم تصفية الخصم فقط! فلكل معركة أهداف وتحقق هذه الأهداف هو المقصد، فإن كان الهدف من مؤتة (الظاهر) هو الثأر لدم امرئ مسلم واحد قتل مسالما بغير حق، فقد قُتل من الروم 3350 وقتل من المسلمين 12 شخصاً فقط، وهناك أهداف أخرى غير ظاهرة، فكانت هذه الغزوة بمثابة رسالة للعرب (من غير المسلمين) أن جيش محمد قد ذهب لقتال الروم وهذا كان أبعد من أن يخطر بأحلام العرب في يوم من الأيام، ولم يكن قتال دفاع بل هجوم! اتجه جيش المسلمين من المدينة لأرض الروم (أو أرض الشام التي كانت تحت حكم الروم وسيطرتهم واحتلالهم)، فبعضهم رأى العز في الإسلام والغلبة للمسلمين وأحب أن يدخل تحت لوائهم فأسلموا في عام الوفود وقد عرفوا رسول الله ﷺ، هذا القائد العظيم الشجاع الحريص على أتباعه، وبعضهم (مثل أهل قريش) دبّ الرعب في قلوبهم إذ علموا أن من لا يخيفه الروم ويذهب إلى غزوهم لن يتأخر كثيراً عن فتح مكة (وقد كان ذلك بعدها في نفس العام)، وهناك هدف آخر هو أهم وأعظم، وهو كسر الخوف الموجود في قلوب المسلمين العرب عن الروم وقوتهم وكانت هذه خطوة مهمة لتربية هذا الجيل الذي خاض بعد ذلك مواقع ومعارك كثيرة معهم ومع الفرس ولم يجبنوا أو يتراجعوا قط، بل كانت كل الغزوات التالية معهم أقل حدة وضراوة من هذه الغزوة الأشبه بالخيالية من ناحية حقائقها ونتائجها! وكان هذا القائد الرابع في مؤتة هو قائد تلك المعارك العظمى بعد ذلك في أرض الروم وعلى رأسها معركة اليرموك بالإضافة إلى فتوحات فارس.
– استمرار الغزوة لمدة 6 أيام رغم هذه النسبة العجيبة والخسائر الأعجب هي رسالة لنا أن الصبر والصمود والثبات رغم كل ما تراه من حقائق قد تظن أنها ضدك هو أمر قادر على الخروج بنتائج عجيبة لم تكن لتتخيلها مهما بلغت رؤيتك الاستراتيجية، إنه أمر يتعلق بالإيمان فحسب، وهذه هي الرسالة الأهم من مؤتة لعموم المسلمين المدافعين عن الحقوق والصامدين في وجه الباطل والطغيان.
أعيدوا قراءة الغزوات في هذا الزمان فهي ليست قصص تُحكى بل مناهج تُدرّس.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.