مصطفى محمود.. الأديب الذي انتصر على الطبيب

فانقلبت الدنيا رأساً على عقب وقتها وهُوجم الرجل بألسنةٍ حادة، وصدر بحقه أربعة عشر كتاباً للرد عليه، على رأسها كتاب الدكتور محمد فؤاد شاكر أستاذ الشريعة الإسلامية، والمُفكر الإسلامي وكان رداً قاسياً للغاية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/18 الساعة 07:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/18 الساعة 07:13 بتوقيت غرينتش

اعترفوا لي

في يوم 27 ديسمبر|كانون الأول من عام 1921م، قبل ما يقرب من خمسة وتسعين عاماً، لا أحد يعرف أنه ميلاد من ترك بصمةً في كل شيءٍ قبل أن يرحل، يوم ميلاد العالم والمؤمن الأديب والطبيب، السياسي والصحفي.

ميلاد مصطفى كمال محمود حسين محفوظ، الباحث عن الحقيقة في الأدب والفلسفة في الطب والسياسة حتى في وجود الله فكانت دنياه رحلة عابر يتفقدُ كل شيءٍ حوله، كان يُؤمن بأن لا يُؤمن بأقوال الناس حتى يبحث ويعرف حقيقتها جيداً.

توفي والده عام 1939 م بعد سنوات من الشلل وزوجتان قبل أمه على غرار أمه بزوجين قبل والده.

تزوج الأديب عام 1961م، بعدما تعرف على زوجته الأولى، عن طريق كتابته في باب اعترفوا لي بمجلة صباح الخير وكانت ملكة جمال مصر آنذاك وللأسف.

انتهى الزواج بالطلاق عام 1973، رُزق بولدين هما أمل وأدهم، ثم كرر التجربة وتزوج مرة أخرى عام 1983 م من السيدة زينب حمدى، والنهاية تكررت مرة أخرى بالطلاق؛ ليبقى وحيداً.

الفتى المتمرد

كان فتى يغلُبُ عليه التمرد قبل الطاعة، تمرد على العادات والتقاليد الطفولية من حوله، قلبُه مُعلقٌ بالسفِر، كان يصنع المراكب الوَرَقية ويتركها تسبح في المياه بعيداً حيث تذهب، يَميلُ إلى الانعزال والتأمل في مياه نيلية راكدة وسط غصونٍ وفروعٍ خضراء لأشجارٍ طالما ملّ من الحديث والفضفضةِ إليها.

كان أول تطلعاته التأملية ظهرت عِندما عَنَفه وضَربَه مُدرس اللغةِ العربيةِ للمرحلةِ الابتدائية عندما سَأل عن الذات الإلهية فمكث في بيتهِ ثلاث سنواتٍ يتعلم دون الذهاب للمدرسِة مجدداً حتى نُقل مدرس اللغة العربية من المدرسة.

قيادته برَزَت منذ الصغر عندما كَونَ مجموعة من الصغار عٰرفوا باسم جماعة الكفار رداً على وعظ ودجل شيخ الجامع عندما نَصحهُ باستخدام الأحجبة رداً على سؤاله له الذي كان محيراً لِذهنه كيف القضاء على الصراصير؟

الأديب الذي انتصر على الطبيب

التحق بكلية الطب بالقاهرة الذي عاش بها طيلة حياته بعيداً عن مسقط ولادته شبين الكوم بمحافظة المنوفية أو حتى طنطا مسقط دراسته الابتدائية وتطلعاته الإبداعية والتأملية الطفولية وسط الأجواء الصوفية بعد رفضه التام للحقوق، واختار التشريح تخصصاً له لِشغفه وحُبه له، كان ينفرد بأصدقائه الجثث يتأمل فُرَاق الحياة ومعنى الموتِ وما وراءَ هذه الدنيا وما هي الروح وما هو الإنسان، فَتخصص بعد ذلك بالأمراضِ الصدرية فكان فيلسوف الأطباءِ ينظر للإنسانِ كمُعجزة علمية خلقها الله لمهمة ما.

ظلّ مصطفى محمود بين الطب نهاراً والعزف سهراً في الموالد والأفراح بعودهِ البسيط من ناحية، وأخرى يكتب القصص القصيرة في صحيفة روزاليوسف مقابل ثلاثة جنيهات للقصة حتى ألفَت النظر له من قبل الموسيقار الكبير مُحمد عبد الوهاب عند قراءة مجموعة مقالات له عن الفنِ والغناءِ والأصواتِ، فتعرف عليه واصطحبه ليكون رفيقه في العيش، بينما تمر الأيام؛ حيث تخرج الشاب وأصبح حكيماً بمستشفى العباسية.

في عام 1960م أصدر رئيس الجمهورية حينذاك جمال عبد الناصر قراراً بمنع العمل أو الإلمام بوظيفتين لشخص واحد، ومن هنا جاء أحد عناوين الصحف المصرية بكلمات الأديب الذي انتصر على الطبيب، بعدما قرر الأديب قرارهِ فاعتزل الطب وتفرغ للكتابة والتأليف والصحافة.

– رحلته من الشك إلى اليقين.
– كتاب الله والإنسان.

"احتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب، وآلاف الليالي من الخلوةِ والتأملِ مع النفس، وتقليب الفكر على كل وجه لأقطعَ الطرق الشائكة، من الله والإنسان إلى لغز الحياة والموت، إلى ما أكتب اليوم على درب اليقين".

كانت كلمات نابعة وصادقة من وجدانِ الأديب في رحلته من الإلحاد كما عَرف عنه حينذاك إلى الإيمان.

تعرض لهجومٍ شديدٍ ساخط عليه وعلى أفكاره ونظرياتِه مرتين؛ الأولى في كتابه الله والإنسان، والثانية عندما ألف كتاب الشفاعة.

قُدم للمحاكمة بسبَبِ الأول بناءً على طلب جمال عبد الناصر بعد الإلحاح المؤسسي للأزهر الشريف؛ لأنه اعتبر القضية عقائدية يُفتى فيها بالإيمان أو الكفر، وفي النهاية أصدرت المحكمة حكماً بمُصادرة الكتاب واكتفت بتحذير الكاتب.

من الواضح هنا أن الأديب كان على خلاف أو شبه استياء من الرئيس، ولم تكن تُوثقـُهُما علاقة ود وصداقة من أي نوع، فكان الرئيس بقلم الكاتب ديكتاتوراً لا يوفر الحرية ولا الديمقراطية لشعبه، كما ذُكر في مقالات سابقة له.

وعلى العكس مع الرئيس السادات صاحب نصر أكتوبر، والحرية التي وضعها في يد السياسيين في مصر نوع ما في نظر الكاتب، فكانت تربطهما علاقة صداقة شخصية قوية ونصائح استشارية من الأديب للرئيس، فقرر السادات طبع كتاب الله والإنسان مرةً أخرى بعدما أبدى إعجابه بفكرته.

وعندما عَرض عليه تولي الوزارة ردّ عليه قائلاً إنه فشل في إدارة المؤسسة الصُغرى المعني بها الأسرة، وذلك بعد طلاقه من زوجته. فكيف بي أدير وزارة كاملة؟!

ولم يحزن على أحدٍ مثلما حَزَن على مصرعه وانتقد قاتليه بشدة وتسألهُم، كيف لمسلمين أن يقتلوا رجلاً رد مظالم كثيرة وأتى بالنصر وساعد الجماعات الإسلامية ومع ذلك قتلوه بأيديهم؟ مستنكراً القتل حتى ولو بسبب المعاهدة.

كتاب الشفاعة

الأزمة الأكثر جدالاً وصداماً سواءً كانت على المستوى الفكري في صدامه مع أشهر المفكرين الإسلامين آنذاك أو حتى على الصعيد المجتمعي في صدامه مع العامة والبسطاء الذين ينتظرونَ شفاعة رسول الله لهم.

والشفاعة هنا، كما ذكرها القرآن وفسرها المفسرون، شفاعة رسول الإسلامِ محمد صلى الله عليه وسلم في إخراج المذنبينَ من المسلمينَ من النار وإدخالهم الجنة.

فقال الأديب مهاجماً أو موضحاً التفسير إن الشفاعة هنا تثير الاتكالية عندَ المسلمين وتحُثهم على عدم الاجتهاد والتواكل، وأنها بمثابة الواسطة بين العبد وربه، وأنها تَعني تغيير حكم الله في هؤلاء المذنبين، وأن الله أرحم بعباده من النبي محمد، والأعلم بما يستحقونه.

فانقلبت الدنيا رأساً على عقب وقتها وهُوجم الرجل بألسنةٍ حادة، وصدر بحقه أربعة عشر كتاباً للرد عليه، على رأسها كتاب الدكتور محمد فؤاد شاكر أستاذ الشريعة الإسلامية، والمُفكر الإسلامي وكان رداً قاسياً للغاية.

ووجهت ألسنة الاتهام له بعدم التخصُص، وأنه مُجرد طبيب لا علاقة له بالعلم الدينى بل عازف وموسيقار ومؤلف مسرحيات وروايات، ولا دخل له بتفسير القرآن لا من قريب ولا بعيد.

وفي لحظة أصبح الأديب والروائي التي تَتحاكى كلماته في كل مكان رجلاً مارقاً حاول أن ينتصر لفكره ويشق التيار الإسلامي.

إلا أن الدكتور نصر فريد وَاصل دفاعه عن الأديب، بطريقةٍ تقتربُ من الحيادِ والموضوعية وبشكل أكثر توضيحاً عن غيرهِ، فَشَهِدَ وقال إن الدكتور مصطفى محمود رجل علمٍ وفضلٍ ومشهود له بالفصاحة والفهم وسعة الاطلاعِ والغيرة على الإسلام والوقوف بجانبِه وبكثرةِ بحثه عن الحقيقة في كل الأوقات.

فما أكثر المواقف التي أشَهر قلمَهُ وَوَجهه دفاعاً عن الإسلام والمسلمين ولا أحد منَّا يشهدُ بغير ذلك، وأوضح أن صاحب الكتاب لم يُنكر الشفاعة أصلاً، بل رأيه يتلخص في أن الشفاعة مقيدة أو غيبية إلى أقصى حد، وأن الاعتماد على الشفاعة لن يؤدى إلا إلى التكاسُل عن نصرة الدين والَتحلي بالعزيمةِ والإرادة في الفوزِ بدخول الجنة، والاتكال على الشفاعة هو ما يجب الحذر منه.

ولكن استمرت مهاجمته واتهامه لاختلاف وجهات النظر في الحكم عليه.

قابل الأديب الألسنة العالية بهدوء شديد، بل باعتزال لفترةٍ بعيداً عن الناس.

لا شك أن هذه التجربة صهرتُه بقوة وصنعت منه مفكراً دينياً خلاقاً وأديباً ساحراً بكلماته، ولا شك أن حياة المتأملين والباحثين تقابل الكثير من الانحرافاتِ، الأهم من ذلك أن ينتهي الانحراف باستقامة، ويختفي الإلحاد بظهور إيمان جديد، إيمانٍ يصطحب معه علم.

ثلاثون عاماً أنهاها الأديب بحوار مع صديقي الملحد وَرحلتي من الشك إلى الإيمان وِلغز الموت وَلغز الحياة والتوراة وغيرها من الكتب شديدة العُمق في هذه المنطقة الشائكة والمُرَاهنة الكبرى التي خاضها ألقت بآثارها عليه وعلى الكثير من قرائه إلى يومنا هذا.

إسرائيل البداية والنهاية

المفكر القادر على نقد ذاته قبل نقد الآخر، وَاعترافه بأنّه كان على غير صواب في بعض مراحل حياته هو ضرب من ضُروب الشجاعة والقُدرة على التحليل السليم وقول الحقِ، كثيراً ما عُرف بنقده اللاذع ورفضه الشديد لدولة إسرائيل وإيمانه بزوالها يوماً من الأيام، كما تشير الكثير من أعماله على رفضه الاستسلام للاحتلال ومقاومة العدو، وأشهرهُما كتاب إسرائيل البداية والنهاية، وكتاب إسرائيل النازية ولغة المحرقة.

وعبرت قبل ذلك القيادة الإسرائيلية لرئيس تحرير صحيفة الأهرام المصرية عن استياء اليهود، بصفة عامة ولا سيما إسرائيل بِمَقالاتٍ تهاجم الكيان الصهيوني كتبها مصطفى محمود في أواخر القرن العشرين.

لم يتخذ المُفَكر فكرة تيار إسلامي بعينه، فكان يتخذ الإسلام عامة ولا ينحاز لفصيلٍ دون آخر بل كان يَحُث الأمة الإسلامية والعربية للوقوف يداً واحدة ضد العدو المارق الذي يدعى إسرائيل، وانتقد في مؤلفاته الحرب التي شنت بين العراق والكويت، وأشاد بصواريخ حزب الله المتجهة إلى تل أبيب في فترة من الفترات.

أهم الأعمال

ألف 89 كتاباً، منها الكتب العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية، إضافة إلى الحكايات والمسرحيات وقصص الرحلات، ويتميز أسلوبه بالجاذبية مع العمق والبساطة والتحليل.

قدم الدكتور مصطفى محمود ما يقرب من 400 حلقة من برنامجه التلفزيوني الأشهر حينذاك العلم والإيمان الذي توقف في تسعينيات القرن الماضي بقرار صدر من الرئاسة المصرية لأسباب سياسية انتشرت بأن تقف وراءها إسرائيل.

أنشأ مسجدَهُ في القاهرة المعروف بـ"مسجد مصطفى محمود" عام 1979م، ويتبع له ثلاثة مراكز طبية تهتم بعلاج ذوي الدخل المحدود ويقصدها الكثير من أبناء مصر؛ نظراً لسمعتها الطبية، وشَكل قوافل للرحمة من ستة عشر طبيباً، ويضم المركز أربعة مراصد فلكية، ومتحفاً للجيولوجيا، يقوم عليه أساتذة متخصصون.

ويضم المتحف مجموعة من الصخور الجرانيتية، والفراشات المحنطة بأشكالها المتنوعة وبعض الكائنات البحرية، والاسم الصحيح للمسجد هو "محمود" وقد سماه باسم والده.

انتقلت روح الباحث إلى من كانت تبحث عليه أو ذهب الإنسان إلى الله كما قال في صباح السبت 31 أكتوبر 2009م الموافق 12 ذو القعدة 1430 هـ، بعد رحلة علاج استمرت أشهر كثيرة أو بضع سنوات عن عمر ناهز 88 عاماً، وقد تم تشييع الجنازة من مسجده بالمهندسين.

مع سماع دوي صرخات تنادي معرفته اللامحدودة وتودعه بدموع سقطت على أجبنة من عرفهُ، متجهاً إلى كتبه للتذكرةِ بكلماته التي لا تموت.

ــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:

الفيلم الوثائقي العالم والإيمان | مصطفى محمود (الجزء الأول)

العالم والإيمان 2/2

مقالات مصطفى محمود على صحيفة الاهرام

لا‏..‏ للتطبيع

"مذكرات مصطفى محمود" تؤكد: إسرائيل طالبت بوقف "العلم والإيمان"

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد