في العام الماضي حققت شبابيك التذاكر حول العالم 38.6 بليون دولار، هذا بطبيعة الحال لا يأخذ بعين الاعتبار الأفلام التي شاهدها ملايين البشر على الإنترنت أو على الأقراص المدمجة أو على خدمات البث التلفزيوني. فلماذا كل هذا الانبهار بعالم الأفلام والسينما؟ ما الذي يجعلنا نقضي ساعات وساعات من أسابيعنا وربما أيامنا نشاهد قصصا غالبا ما تكون محض خيال، لم تحدث وربما لن تحدث بنفس الصورة التي عُرِضت بها؟ أو هكذا نعتقد.
في الحقيقة لو تأملنا الأمر قليلا لوجدنا أننا منذ الأزل نحب الحكي، نحن كمجموع إنساني نحب أن نتعامل مع العالم من حولنا بالقصص. نحن نحكي حتى نتذكر ما قد جرى، نرسم على حوائط الكهوف وجدران المساكن ثم على الحجارة والجلود. ونحن نحكي حتى لا نختفي، نحكي حتى يتذكرنا الآخرون، في الكلمات وسيلة أخرى للبقاء على قيد الحياة، الكلمة منطوقة أو مكتوبة كانت ملجأنا ومحضن أفكارنا وتواريخنا، لهذا يُعد اختفاء اللغات الأصلية مثلا في البلدان التي تعرضت للتطهير العرقي إعداما مع سبق الإصرار والترصد لتلك الحضارات وتاريخها وعلومها ووسائل حياتها وحتى سجلاتها الطبيعية وما تعرفه عن بيئتها، حتى بات المحتل يعيد اختراع العجلة وينسب إلى نفسه فضل اكتشاف ما كان قد اكتُشف قبله بملايين السنين، ولكن هذا حديث آخر.
ونحن نحكي حتى نفهم العالم من حولنا، ننسج الأساطير والخرافات، ونضع النظريات السردية وراء الظواهر الغريبة حتى نجعلها تبدو منطقية بدون منطق. بالأمس كنت قد تعرفت على قصة تراثية للسكان الأصليين هنا في أستراليا، تحكي القصة عن فتاة كانت تثير المشكلات منذ صغرها بين أفراد قبيلتها، ولأنها صغيرة فقد تجاهل الكبراء الأمر حتى بلغت وأصبحت امرأة، عندها أقرّوا عقابا يليق بالأذى الذي تسببت به، فانقضوا عليها ودحرجوها في الرمال حتى تفلتت منهم وهربت.
لجأت تلك المرأة سيئة القصد إلى قوى الشر وطلبت منهم تحويلها إلى كائن شرير حتى تختبئ في بحيرة قريبة، وظلت مختبئة هناك حتى إذا ما جاء أحد أفراد القبيلة ممن شاركوا في عقابها انقضت عليه وأخذت تدور به كما دحرجوها هم من قبل، إلى أن اكتفت من تعذيبه وألقت به بعيدا، وهكذا فإنه حتى يومنا هذا تدور حول نفسها في الماء كلما أمسكت بفريستها.
رأى الإنسان التمساح يقوم بفعل غريب لا يفهمه، فنسج في مخيلته قصة تفسر ذلك السبب، ثم ألقى عليها من قيمه ما يتماشى ومقاصده، فعاقب الفتاة التي كانت تفرق بين أفراد قبيلتها على سوء فعلها، وكرس ثنائية الخير والشر التي يؤمن بها بأن قدّر لها الشر المؤبد، بعيدا عن أمثالها.
نحن نحكي لأننا لا نستطيع أن نفهم العالم دون قصة، عقولنا تحتاج تلك البداية والنهاية، الولادة والموت، حتى الكتب السماوية تقوم في معظمها على القصص. ليست الحكاية وسيلة ترفيه فقط، ولا طريقة لقضاء ليالي الشتاء وأمسيات الصيف فحسب، لقد عاش الناس عليها وحمّلوها أحلامهم وآمالهم وطرائقهم، ونسجوا من خلالها عالما آخر يلجأون إليه عند الحاجة.
أذكر أنني في المرحلة الثانوية كنت أقضي كامل يومي تقريبا في قراءة رواية أو كتاب تاريخ، وكانت أمي تعتبر أي نشاط يقوم به المرء طوال اليوم نشاطا سلبيا، حتى الدراسة، كانت لا تطيق -وما زالت- أن ترى أحدا يفعل ذات الشيء طوال اليوم دون توقف. بالنسبة لي كان الأمر إجباريا وليس اختياريا، كان عليّ أن أغلق الدائرة، أن أكمل الحكاية، أن أصل إلى النهاية، كانت تلك الرغبة الملحة في إنهاء النص تجعلني أكره النهايات المفتوحة، كم كنت أغضب عندما ينتهي الكتاب ولا تنتهي القصة! وكان ذلك مفهوما فقد كنت مبتدئة في الأدب.
كبرت وتعلمت أن الرحلة مهمة أيضا، وأن الحبكة والعقدة والنهاية ليست هي محط التجربة، صرت أتقبل النهايات المفتوحة والمترددة والمتشككة، صرت أقرأ الكتاب الواحد مرات ومرات، صرت أقرأ لأتعرف أكثر على كل شيء، الكلمات، والأصوات، والصور، صرت أخرج أفلامي الخاصة في هذا الحيز الصغير الذي يسمى دماغا.
لأنها تحكي، لأنها هي أيضا طريقة لنفهم العالم أحيانا، ولنتعلم منه، ولنتعامل معه، ولنهرب بعيدا عنه في كثير من الأوقات. عندما أتأمل ردود أفعال الناس أجد من يحب الحالة التي يخلقها فيلم معين، يستمتع بالوهم الذي يخلقه، وهناك من يحب الفكرة أكثر من أي شيء آخر، ويمقت الأفلام التي تركز على التفاصيل الصغيرة، هناك من يحب الواقعي ويكره الفنتازيا، وهناك من يحب التاريخي ويكره المعاصر، هناك من يمقت الرمز ويقدر المباشرة، وهناك من يريد "الهيافة".. وهكذا فنحن نميل إلى الحكي الذي يلائمنا، أو الذي يلبي حاجاتنا، أو أهواءنا.
ولكننا أيضا نحبها لأنها توفر علينا عناء الخلق والتخيل، لا تحتاج إلى صبر، ولا تأمر كثيرا، إلا من رحم ربي، دعونا نقر بأن غالبية الناس لا يرون في الأفلام سوى وسيلة لقضاء وقت لطيف أو تلبية لوع ما، وقليل من يتأمل في مضمونها أو تركيبها. وإلا لماذا انتخب الأميركيون ترمب وقد شاهدوا "هاري بوتر" و"ذا هانجر جيمز"؟ لأن هناك مجموعة من الحمقى وخبيثي النيّات صوروا لهم أن الأدب والفن منفصلان عن الواقع، وأن ما نشاهد ونقرأ ونسمع وسائل ترفيه فقط، وأننا لا ينبغي أن نحمل الأمور فوق ما تحتمل.
ولأننا كسالى، نحن نعشق الأفلام لأنها خلافا للكتب لا تحتاج منا أن نخلق شخصياتها، ولا أن نرسم مشاهدها، ولا أن نتأمل التجاعيد على وجوههم عندما يضحكون، أو الغضب في عيونهم، إنها تحولنا في كثير من الأحيان إلى زومبيز، نتلقى ثم نتلقى ثم نتلقى، ننبهر بالصورة والصوت، ربما نبكي مع البطل أو عليه، أو نضحك أو نخاف، ولكنها جميعها وسائل تفريغ، ثم نعود إلى حياتنا الطبيعية الروتينية. نعود برؤوس محملة بوهم العلاقات الرومانسية السطحية، وبصورة غير واقعية عن السعادة، وربما برهبة من الأماكن المغلقة والمظلمة. هذا كل ما نأخذه منها.
أذكر أنني بعد أن شاهدت فيلم "متاهة بان" (Pan's Labyrinth) أجهشت في بكاء مرير حتى نمت، حاولت أن أعرف ما سبب كل هذا البكاء لاحقا، قرأت عن الحرب الأهلية الإسبانية قليلا، وقلت في نفسي ربما يجدر بي بجدية أن أخصص وقتا أكبر للاطلاع على السينما العالمية، وكنت أشغل الفيلم في خلفية الحاسوب وأنا أعمل حتى حفظت أجزاء من الحوار. أسأل نفسي الآن، هل كان حقا هو سبب اهتمامي الحالي بأميركا اللاتينية مثلا؟ هل كانت البداية من هناك؟ هل بدأت من هناك رحلتي في التعرف على مدى تأخر المجتمعات العربية وريثة المستعمر في التحالف مع شعوب تلك القارة التي عانت من مصير مشابه؟ ربما..
ربما أناقض نفسي عندما أحكي لكم تجربة شخصية عن أثر الأفلام في حياتي بينما أنا أنتقد أنها تعزلنا عن العالم، ولكن أعتقد أن العبرة وما أحاول قوله هو إننا قد نعشق الحكايا والأفلام والقصص بسبب طبيعتنا البشرية التي مارست فن الرواية منذ القدم، ولكننا أيضا نختار ماذا نفعل بهذه الطبيعة، هل نحولها إلى متعة آنية ونشاط جانبي يخدرنا، أم نقرر أن نكون واعين ونحن نشاهد، واعين ونحن نتأثر، والأهم من كل هذا.. أن نُعرض عن سهولة الأمر أحيانا ونقرأ.
هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة مدونات
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.