من يقرأ للعقاد أو لمصطفى صادق الرافعي أو المنفلوطي، أو يسبر أغوار الأدب الموروث الراقي، كأدب الجاحظ أو ابن المقفع أو غيرهما، لا بد أنه سيجد فارقاً كبيراً بينه وبين ما نقرأ هذه الأيام في وسائل الاتصال العربية بشكل عام.
في الأمثلة الأولى فكأنك تأخذ شهيقاً معرفياً وتعتد بعدة أدبية، لغوية، أسلوبية تصلح أن تركب منها أفكارك الخاصة بأجناس أدبية متنوعة.
أما هذه الأيام فأنت تقرأ معلومات جافة، وفي كثير من الأحيان جامدة غير سلسة لا تصلح لري شجرة الشغف الأدبي لديك.
الكتابة هذه الأيام عملية اتصال تخلو من الإيصال، فهي تتصل بك وتنقل لك معلومة، ولكن ماذا بعد؟
في بعض نصوص الرافعي والعقاد كأنك تقرأ (هايبونات) متتالية، وهي دسمة وذات معنى ثمين. وتعطيك لبنات لبناء قصورك اللغوية الخاصة، بأسلوب مميز وحساس.
عملية الكتابة هذه الأيام ليست شهيقاً، بل دورات وكورسات، وفي الحالة العربية خصوصاً قليلاً ما تكون علاقات شخصية واتصالاً شخصياً، أما في الحالة غير العربية فهذه العلاقات مهمة للغاية في نقل المعرفة والخبرات.
أذكر في هذا الخصوص اتصالي مع كاتب أميركي اسمه Melvin Sterne تعلمت من هذا الكاتب أثناء تحريره قصة قصيرة لي أسساً أدبية معاصرة لكتابة وتحرير هذا الجنس الأدبي.
ولم يبخل عليّ كمدرس في جامعة أميركية وكمحرر مؤسس لمجلة Carve Magazine، لم يبخل عليّ بأي معلومة.
في حين أنني تعبت في متابعة صحفي محلي لمجرد الاطلاع على مقالة لي بغرض نشرها في جريدته دون جدوى.
نحن العرب في العصر الحديث غالبيتنا تعلمنا في المدارس الحكومية، وفيها لا يعلمون من الكتابة سوى الإنشاء، وهي كتابة لها أحكام خاصة؛ لذلك تجد معظم كتاباتنا بلا طعم ولا لون ولا رائحة.
فالإنشاء لا يمكن الحكم عليه، هل هو صح أم خطأ؟ هل هو صدق أم كذب؟ وهو بذلك ليس برأي حقيقي، هذا ما جنته علينا المناهج الحكومية، إنها مناهج لا تريد أن تخرج إنساناً سوياً يعتد برأيه، بل إنسان إمعة بدون ملكة التعبير المنطقية.
تلك الأفكار الحالمة والتوصيفات المحلقة التي لا تعني في الحقيقة أي شيء، والغرض أن تستمر الأنظمة المحافظة على ديمومتها في الحقبة المعرفية الحديثة عن طريق القمع وتكميم الحريات وخلق حالة من الرضا المصطنع عنها عند الناس بفضل الجهل التعبيري.
وهنا يثبت انتفاء دور النخبة في التوعية الجماهيرية العامة إذا كانت منتقاة بعناية كحفاظ على مصالحها الخاصة والآنية.
من هنا يمكن أن نفسر وجود ظاهرة الكُتاب والكتب الممنوعين، وسأتجاوز عن وصفهم بالمقموعين؛ لأن الجميع موالون و(موتورون) مقموعون.
وجود هذه الظاهرة هو تعبير عن خطورة عدم السيطرة على الأفكار وعلى خطورة تنامي الرأي والرأي الآخر في مجتمعات الأنظمة العربية باختلاف أشكالها.
يقول كتاب الأنظمة (بغض النظر عن حالة الفصام التي يعيشونها ويعبرون من خلالها) ما يزيد عن ما قال مالك في الخمر نقداً للأوضاع السائدة، وبالرغم من كل ما يرونه ويحسونه ويقيسونه، يصفون الفرصة الوحيدة التي لاحت للتغيير بأنها ربيع (عبري)، ويؤلفون في هجائها المعلقات، والنتيجة المثلى كما قيل من هذا الربيع عند شعوب ولي الأمر هي (دقت ساعة الأكل).
لقد ولّت أيام الأنظمة الثيوقراطية واستمداد الشرعية السياسية من الدين ورجال الدين وفتاواهم، لخطورة هذا التوجه على الأمن والسلم العالميين، خاصة ما يتعلق بالإسلام (تذكروا الخلافة العثمانية)، ولأن الالتزام الديني الحقيقي سيؤدي عن طريق الاستدلال بالسلسلة إلى الإرهاب.
هذه الأنظمة تريد وضعية علمانية مستقرة، لكن غاب عن مخططاتها أن العلمانية لا تجتمع مع التسلط والإجبار في ظل مجتمعات ذات وسائل اتصال مفتوحة؛ لذلك هي تلجأ لتثبيت الاستقرار وإلى استخدام الحلول الأمنية ذات التقاليد الصارمة القاسية.
أما الاعتماد على ديمقراطية وانتخابات شكلية فهذه طرفة من الطرائف في العصر الحديث لا يوقف الضحك عليها سوى أجهزة أمنية لديها حس قمعي مخيف.
العلاقة بين بعض النتائج التي خلصنا إليها وموضوع المقالة هي أن تجهيل وتعمية وتحييد المواطن العربي سياسياً عن طريق وسائل الاتصال المختلفة هي عملية مقصودة لذاتها بأساليب مختلفة يستطيع القارئ ملاحظتها بل وقياسها، وهي مقصودة لحماية مصالح طبقة معينة واعية لما يحدث حولها بعكس كثيرين آخرين.
إن من مصائب الإنسان العربي أنه ليس فقط لا يستطيع التعبير عن نفسه بشكل سوي وسلس، بل أيضاً لا يستطيع التنفيس عما يثور في خبايا شعوره.
فبينما يجد الشخص الغربي أماكن للصراخ بأعلى صوته وحتى أماكن لتحطيم ما تصل إليه يداه، فإن العربي لو قام بهذه الأشياء لأحضروا له طبيباً نفسياً وأعطاه مادة لا يستطيع معها حك أنفه ولأدخله الجنون من أوسع أبوابه.
ومن الطريف أن ذاك الطبيب يسأل: "هل تحس أن أحداً يراقبك؟".. تصوروا. إذا قال نعم فهو ذهاني، فصامي. وإذا قال لا، ونحن نعرف العيون المبثوثة في بلادنا، فهو حقاً (مجنون).
المواطن العربي في كل التشخيصات الطبية والعملية هو معاق فاقدٌ للأهلية.
قيل قديماً إن حاجة المسلم للمعوذتين هي كحاجته لضرورات الحياة كالمأكل وغيره، فهل نعود للقرآن ونعيه حق وعيه، فمشكلة الغرب ليست معنا؛ لأننا لا شيء، ولكن مشكلتهم هي مع الإسلام نفسه كعقيدة ودين وشريعة ومنهج حياة وذلك باعتراف قادتهم في خطبهم الاستعراضية التي يبسطون فيها إنجازاتهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.