الإمضاء الأخير

الوقت الضائع الذي أمضيه أتصفح أخباراً لا تسرني، ولا تظهر الحقيقة أصلاً، يعادل الثلاثين عاماً التي مضت من حياتي؛ إذ إن الحقيقة نسبية، والقضايا المحقة كلها وجهة نظر.. عالم يتداعى، أطفال تُقطّع أوصالها.. بيوت تحترق.. طائرات تقصف.. خونة ومجرمون ينالون جوائز نوبل للسلام.. مواقع تتنافس بكشف الفضائح، والتفرّد بخبر "تقليم أظافر" فنانة جميلة... ثمّ يأتيك رجل وزوجته، يلتقطان صورة غبية لابنتهما السعيدة في ثوب التخرج.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/06 الساعة 07:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/06 الساعة 07:59 بتوقيت غرينتش

كان الألم أقرب للواقع، والبسمة تعكس ما هو أعمق من مسام البشرة و"الأسنان بعد التبييض".

كل ما كان ينبض في الجسد، كان ينبض لسبب وجيه.. الوجود.

اليوم، نحن موجودون فعلاً داخل الشاشات وفي "الأرشيفات" والـ"داتا" المتناقلة.

تخيّل بأنك تملك حاسوباً ضخماً، ولديك الوقت لتدرج كل شخص يطاله "المتصفّح الذكي" في ملفات، كل باسمه، وتاريخ ميلاده، ولون شعره، وصور عائلته، وأصدقائه، حبيبته، وعطلة نهاية الأسبوع التي قضاها في "البهاماس"، الطعام الـ"over-rated" الذي تناوله في الـ"Caf- Trottoir".. وكل الأمور المغرية التي تصدّرت الشاشة..
ثمّ في كعب الشاشة "رابط" عن آخر كتاب قرأته، ربما منذ متى.. شهر؟ أو أكثر؟

تخيّل أنك كلما أردت أن تلقي التحية.. تطلّب منك الأمر 10 ثوانٍ: كبسة زرّ.. طباعة "صباح الخير".. إرسال.. ثمّ "انتظار"..
قد يتخطى انتظارك أسبوعاً.. كي تنال في نهاية الأسبوع "صباح النور" يتيمة، ثم تشعر برضا فارغ وفجوة غير مفهومة.
تفقد الشعور.. جديّاً، تفقد كلّ شعور.

أعترف، طالتني كل تلك الإغراءات من وقت لآخر، وبت أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي كي أملأ فراغاً غير موجود أصلاً.

من قال بأن الكون الذي لا نراه فراغ؟
الوقت الضائع الذي أمضيه أتصفح أخباراً لا تسرني، ولا تظهر الحقيقة أصلاً، يعادل الثلاثين عاماً التي مضت من حياتي؛ إذ إن الحقيقة نسبية، والقضايا المحقة كلها وجهة نظر.. عالم يتداعى، أطفال تُقطّع أوصالها.. بيوت تحترق.. طائرات تقصف.. خونة ومجرمون ينالون جوائز نوبل للسلام.. مواقع تتنافس بكشف الفضائح، والتفرّد بخبر "تقليم أظافر" فنانة جميلة… ثمّ يأتيك رجل وزوجته، يلتقطان صورة غبية لابنتهما السعيدة في ثوب التخرج.
ما هذا كله؟
"لا إحساس" يضرب في عمق العمق، حتى تصبح الأشياء لا قيمة لها، والشعور بالألم مبتغىً وأمنية.

اليوم قررت انتزاع ما تبقّى من "خلايا الإحساس" من هذا الواقع.. والعودة لما كنت عليه قبل 15 عاماً.

قد أرغب بعناق أحدهم بشدة، وهو بعيد كل البعد.. لكن سأكتفي برغبتي تلك وأنتظر عودته؛ كي أعانق جسداً لا صورة.

قد أرغب بإلقاء التحية و ترقب ردة فعل حقيقية، وربما مصافحة يد.. قد أرغب بما كان متاحاً بسهولة.

سأغادر عملي، حيث كان الحاسوب يجلس في مقعدي أكثر مني، ويحتل مساحة واسعة من مكتبي.. وأستبدل كل ذلك برسالة استقالة وإمضاء أخير..
العالم مسرع للغاية.. أُرهقتني المواكبة.
ربما سأختار الورق، والركض تحت المطر، وركوب الدراجات الهوائية، والتخييم في العراء، والعودة للنار والحطب.. و"القهوة المغليّة".

ربما سأشتاق للسرعة التي اعتدتها وكوب الـ"American Coffee " الذي لم أكمله يوماً..
لكن أشتاق وأتوق أكثر لبساطة العيش، وفيروز في الصباح على الشرفة، ومشهد عامل النظافة تحت المنزل.

أتوق للضحك الهستيري، وثرثرة الأصحاب، والدراسة والقراءة والكتابة.. أتوق لكل ما فقدت.

ثم إنني أشتاق لعناق طويل، وعالم حقيقي ينتظرني..
وها أنا أضع إمضائي الأخير.. وأكمل ببطء.. بدون تردد أو خوف مما بدأت.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد