التقيت اليوم بإحدى الصديقات من ذوات الخبرات الثرية بالحياة، وامتد حديثنا للمهن التي التحقت بها على مدار عمرها الطويل.
ورغم تجاذبنا الحديث لساعات طويلة، لكن ما استوقفني كثيراً، حديثها عن الفترة التي قضتها في فريق الإعداد لمحاضرات Ted العالمية، التي كثيراً ما أبهرتني وأثارت حماسي واستدعيت صورتي وأنا ألقي كلمتي هناك يوماً ما.
ظننتها للوهلة الأولى في فريق الإعداد للحدث أو للاعتناء بالحضور، وإذا بها تباغتني بأنها كانت قائدة لفريق لمدربي اللغة الإنكليزية! أجل، ما من متحدث صعد لهذه المكانة إلا وخضع لشهور طويلة من التدريب على قواعد اللغة الإنكليزية وفنون الإلقاء وألقى حديثه عشرات المرات حتى وصل إلينا بهيئته الأخيرة في عشرين دقيقة لا أكثر.
نعم يا صديقي، فالشغف وحده لا يكفي! بل إن علمك ودراستك المتأنية به وحدها لا تكفي لتحسن تقديمه للجماهير العريضة.
ذكرني حديثها بما قرأته مراراً عن أستاذنا نجيب محفوظ الذي امتد به العمر وهو يستيقظ في الصباح الباكر ليقرأ ويكتب بعد ما بلغ من الشهرة والنجاح ذروتهما.
وغضبي الجمّ ممن قابلتهم في سنوات عملي الطويلة وهم يهدرون مواهبهم ويريقون شغفهم على مذابح الإهمال والغرور. يكيلون الاتهامات للدنيا ولجميع من حولهم بأنهم لم يقدّروا مواهبهم التي تركوها تصدأ دون جهد أو بذل.. ينظرون دائماً بسخط لعديمي الموهبة الذين منحتهم الحياة فقاعات حملتهم بعيداً حتى ظنوا أنها حاميتهم للأبد، ومنهم مَن نشر كتباً أو دواوين شعر أو أقام حفلات موسيقية وربما نال مناصب رفيعة.
تحمل الحياة أمواجاً من الصراعات بين هاتين الطائفتين، كل منهما ترى نفسها الأحق والأجدر بالتميز، فتستند الأولى لموهبة أصيلة لم تجد طريقاً سوى الصلف والتعالي، وتستند الأخرى لبعض حظوظ الحياة لتخفي هشاشتها.
ونبقى نحن السائرون على درب الجهد مؤمنين بأن الشغف وحده لا يكفي، وإن تعبنا من السير نطمئن أرواحنا بما يقوله نجيب محفوظ: "فقد ينفتح الباب ذات يوم تحيةً لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.