مرَّت الحركات الإسلامية المعاصرة في العالم الإسلامي بعدة مراحل، تطورت خلالها المناهج والأفكار، منذ تبلوّر الرؤية النظرية الإصلاحية الأولى مع الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، ثم التحقق التاريخي مع جماعة الإخوان في مصر على يد مؤسسها الإمام الشهيد حسن البنا، ثم امتدادات الحركة الفكرية والتنظيمية التي انتظمت العالم الإسلامي حتى أصبحت الحركة الإسلامية من أهم المكونات الإصلاحية الفاعلة في العالم أجمع، خصوصاً في إطار العمل السياسي، فالإسلاميون أصبحوا مكوناً لا يمكن إهماله، ورقماً سياسياً صعباً في عديد من المعادلات السياسية حول العالم، وذلك لما للحركة الإسلامية من أهمية، ودعونا نركز في القسم الأكبر من عرض ونقد المناهج على أخطاء وقعت فيها بعض الحركات الإسلامية بصفة عامة، ونبدأ بنقد سمات المنهج العامة، خصوصاً تلك التي ساهمت في إبراز عجزه عن إجابة السؤال الإصلاحي في العالم الإسلامي، وكيف يمكن أن يتحقق، ويمكن إجمال هذه الصعوبات فيما يلي:
1 – الاستغراق في العموميات:
استغرقت مرحلة العموميات هذه وقتاً أكثر مما تستحق في سلم صعود الحركات الإسلامية، فالمجهود الحركي بعد جيل الصحوة الأول عاد مرة أخرى إلى مرحلة الهتاف العام والمرافعة البراقة، مكان أن ينزل إلى مستوى الخطط التفصيلية والتدبيرات الإجرائية الصريحة، ففي عقدَي الستينات والسبعينات من القرن الماضي -وهو تاريخ متأخر عن جيل المصلحين الأوائل- شاع في أولئك الإسلاميين الفكر الإطلاقي العام الذي ينشغل بترديد المبادئ الجليلة دون الالتفات إلى المناهج العملية التي تخدم تلك المبادئ، وكان لهذا النزوع أثره البالغ في عوز المناهج العملية أو ضآلتها في مقابل عظيم الابتلاءات التي واجهها الإسلاميون أنفسهم، وهذا مما لا يسع المقام لذكره من شدة كثرته ومرارته في الوقت ذاته.
2- أُحادية المدخل الإصلاحي:
مهما ادعت الحركات الإسلامية أنها تعتمد مبدأ الشمول في شعاراتها العامة، فذلك لا يخفي استغراق تلك الحركات في العمل السياسي ذي الطبيعة المهلكة التي تستنزف جهداً ووقتاً بالغَين من طاقة الحركات الإسلامية نفسها، ولعل منبع ذلك من خطأِ التشخيص الأول لمعضلة العالم الإسلامي، بوصفها -عند الإسلاميين- معضلة "سياسية" سببها فقدان الخلافة الإسلامية واستخلاف حكومات ما بعد الاستعمار التي تحكم بغير ما أنزل الله، والملاحظ تشابُه هذه الرؤية مع رؤيتي السلفية المعاصرة والصوفية، اللتين تلخصان المشكلة في الشرك والفساد تباعاً، والكل بلا استثناء يعتمد مدخلاً إصلاحياً يوافي ذلك التشخيص الذي افترض ابتداءً، والحق أن المدخل الإحادي للإصلاح يجعل من عملية الإصلاح نفسها عملية تجزيئية، متقزمة وقاصرة عن إدراك غاية المنهج الإصلاحي.
ولما يعتمده الإسلام من مبدأ الشمول الذي لا يجزئ الحياة الإنسانية، فإن كل منهج إصلاحي ينبغي أن يتحلى بذلكم المبدأ، وبنظر عميق لمشكلة العالم الإسلامي نجد أنها مشكلة ذات طبيعة مركبة، يتداخل فيها السياسي مع الاقتصادي والثقافي والفني والتعليمي والمعرفي، وبتعقد ذلك التركيب فينبغي على المنهج الإصلاحي أن يكون مركباً -كذلك- تركيباً يوافي تعقيد تلك المشكلات ويعمل على حلحلتها بنجاعة، وواضح أن مشكلة العالم الإسلامي لا يمكن حصرها في الحكم بغير ما أنزل الله أو شركيات القبور أو فساد النفوس، وكل هذه تبدو أعراضاً لمشكل أعمق بكثير، وهو العجز عن التعاطي مع الواقع الحضاري الجديد بما تتطلبه احتياجات ذلك الواقع.
3- إجلال التنظيم:
لا يغيب عن واحد من الإسلاميين أن قيمة التنظيم الإسلامي محددة بوصفه وسيلة تحقيق المبدأ الإصلاحي الإسلامي وتنزيله في الواقع، لكن يلاحظ أن غالب الحركات الإسلامية وقعت ضحية تبجيل وإجلال التنظيم بحيث تحول التنظيم إلى غاية في ذاته، وساهم ذلك في بلورة مرحلة الجمود التنظيمي التي ما زالت تراوحها بعض الحركات الإسلامية، فكثير منها أخذ يبجل الأشكال ويعظم الصور ويضحي في سبيل ذلك بالمبادئ والقيم التي من أجلها أُنشئ التنظيم نفسه، ومكمن ذلك الداء هو اعتماد المدخل السياسي للإصلاح بوصفه مدخلاً أحادياً يُعظم من قيمة الكسب التنظيمي والحشد التعبوي وحصد الأصوات الانتخابية ومحاكاة الأحزاب والتنظيمات الحديثة التي تقيس كسبها العام بعدد ما تحصده من أصوات الناخبين والمؤيدين، ذلك جعل من تنظيمات الحركة الإسلامية صوراً وهياكل جامدة لا تتجدد بتجدد حاجات زمانها ومكانها وأفقد منهجها عامل المواكبة الذي هو شرط نجاعة المنهج، كما ذكرنا في المقدمة.
4- محورية الشيخ القائد وهيمنة الجيل المؤسس:
كثيراً ما يحتفي الإسلاميون بشيخ أو جيل شيوخ في أول عهد تنظيمهم ينسب إليهم فضل التأسيس وإبداء المبادرة، وهذا بحد ذاته لا بأس به، لكن لما يتحول الأمر إلى عملية تقديس وتبجيل، ثم وقوف عند محطة التأسيس الأولى دون النظر إلى ما بين يدي التنظيم من ابتلاء جديد لا يماثل ابتلاء جيل التأسيس، يفقد المنهج الإصلاحي سمة هامة من سماته وهي الاستمرارية؛ لأن تلك التنظيمات -كما هو مشاهد ومعلوم- لما تفقد ذلك الشيخ القائد أو الجيل المؤسس بسبب الوفاة سنة ماضية في خلق الله، فإنها تضطرب وترتبك ارتباكاً مكلفاً، ذلك لأنها جعلت آصرتها الرابطة بين عضويتها الولاء للشيخ أو جيل الشيوخ دون الولاء للمنهج الراسخ، وتصبح بذلك عرضة للانقسام والتفرق والتشرذم وذهاب الريح، ومهما حاولت الحركات أن تتجنب هذا المأزق فإنها عرضة لأن تفشل، إلا أن تبدل منهجها وتعلي من قيمة الوعي بالزمان والمكان وتستجيب لكل ابتلاء جديد بما يكافئه، غير طريقتها التي تشبه طريقة السلفيين الماضوية التي تجتر أدوية الماضي لتعالج أدواء الحاضر.
5- الاستغراق في التربية الفردية:
شددت الحركات الإسلامية في منهجها على مبدأ الشمول، الذي بدوره مستمد من رؤية الإسلام للإنسان والعالم، فالتوحيد الذي هو عمود الإسلام في أهم معانيه هو صرف الحياة جميعاً تعبداً لله -سبحانه- بلا شريك، لكن المنهج الذي اعتمدته الحركات الإسلامية في سبيل إدراك تلك الغاية قد تقاصر بالحركات عن إدراكها، وهو منهج تربية الفرد الذي يشكل الأسرة والتي تشكل بدورها المجتمع الذي يشكل الأمة، فأصبح غالب همّ التربية في الحركة موجهاً إلى خويصة الفرد وتزكية نفسه، دون النظر إلى حال المؤسسات القائمة التي ينسلك فيها ذلك الفرد بعد إصلاحه، إذ في تلك المؤسسات وبنيتها الفلسفية ما هو كفيل بإفساد كل صالح، وقد يظن صالح النفس أنه حافظ لصلاحه بينما يعمل في مؤسسة تفسد واقعه برمته، والانصراف إلى حال النفس شابهت فيه الحركة الإسلامية الطرق الصوفية إلى حد بعيد، فوقعت كذلك في داء العلمنة الخفي الذي يفصل الأخلاق الفردية عن الأطر المؤسسية العامة.
6 – دعوى الفقه المتفرد:
كثير من الحركات الإسلامية الحديثة تبتدر مقدمة منهجها بالإشارة لضعف مناهج المسلمين الموروثة من حيث قدرتها على معالجة الواقع الجديد، وإذا كان الإسلام مبدأ يصلح للتفاعل مع كل زمان ومكان فإن الكيفية التي يتجلى بها ذلك التفاعل تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ومن حيث أرادت الحركات الإسلامية من هذه المقدمة أن تكون لها عوناً على ابتداع منهجها الجديد، أصبحت هذه المقولة تُردد بكثافة لما يريد منسوبو تلك الحركات تبرير فشل مناهجهم والاعتذار عن أخطائهم الجسيمة في تفاعلهم مع الواقع الإسلامي الحاضر، فكثير من قادة تلك الحركات لما يسألون عن أسباب فشلهم يردون الأمر برمته إلى ضعف الموروث الإسلامي وخلوه من التجارب الناجعة في الإصلاح، وتطاول العهد بآخر المناهج الناجعة وهو منهج الخلافة الراشدة الذي تلاشى منذ قيام الدولة الأموية بُعيد الفتنة الكبرى.
ولعل الدعوى هذه لا تعفي الإسلاميين من المسؤولية الأخلاقية والمعرفية تجاه ما واقعوه من مشكلات؛ لأن السبب الأساسي فيها هو عوار منهجهم واضطراب بنيته النظرية والعملية، ذلك لأن الإسلاميين لما طرحوا مشروعهم المبشِّر بانفراج كربة العالم الإسلامي كانوا يدركون سلفاً ضعف ذلك الموروث الفقهي والمعرفي وتواضع قدراته التي ما تسعفه لحل مشكلات الحاضر، وكان ينبغي عليهم إذ ذاك إيجاد الصيغة الملائمة التي تصلح فعلاً لتدارك ذلك الخلل الذي لحق بالموروث فأقعده عن وظيفته، على الرغم من بعض محاولات الإسلاميين القليلة في مضمار "تجديد الفقه الإسلامي"، إلا أن الفقه الجديد نفسه لم يخرج من إطار العموميات اللفظية والقواعد الأصولية القديمة التي ابتُدعت لتوافي حاجات عصر بعينه، وظل فقه الحركات جميعاً -كفقه سابقيهم- يلاحق أحداث الزمان المتسارعة ويلهث خلفها بالفتوى، دون أن يصنع بذاته حدثاً واحداً يعبّر عن جوهر التدين ببناء السنن كما سيتضح من منهجنا لاحقاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.