أقول: إنني وبعد 12 عاماً على تخرجي بترتيب الأول على الدفعة، اكتشفت أنني ما زلت لا أحب الصيدلة وكنت صيدلانياً بالصدفة، نعم فأنا إلى الآن لم أمارس الصيدلة كما هو بقالبها الحالي، ولن أمارسها ما دام القالب هكذا، فهي كباقي التخصصات الجامعية ندخلها؛ لأنها تناسب معدلنا في الثانوية وكانت في عام 2000 في الدرجة الثانية من حيث المعدل العالي بعد الطب، وكان حينها معدلي بالنسبة للسنوات السابقة يؤهلني لدخول الطب كقدوتي أخي الأكبر بدون تفكير، إلا أن طفرة ارتفاع المعدلات أودت بي إلى الصيدلة وكانت رغبتي الرابعة من أصل 15 رغبة مسموح لي التقدم بها، واحتلت رغباتي الأولى كليات الطب بعدة مدن سورية، وتابعت رغباتي الـ15 حسب الترتيب الذي تطرحه الدولة من حيث ترتيب التخصصات وما يقابلها من طلب معدلات، ومن يدخل فرع جامعي أدنى من حيث ترتيب الدولة وتخطيطها نظراً لرغبته، ومعدله أعلى مما يرغب، كان ينظر إليه أنه جاهل، فمعدلك يؤهلك للطب، وأنت درست الهندسة، فأنت مجنون، وإذا غامر (وأقول إذا غامر؛ لأن هذه الصفة سوف تلاحق أجيال الولد) أحد بإرسال ابنه لدراسة فرع يرغب به ابنه أو تحدده ميول الطالب ومعدله في الثانوية لا يؤهله لدخول الجامعة الحكومية، فهذا حسب مقولة مجتمعنا (ابنه جاهل وبده يعمله بالمصاري فهمان)، ولكن بعد أن كبرنا وجدنا أن في كل مما سبق شيئاً من الصواب والخطأ.
فأنا تخرجت في الصيدلة بترتيب الأول على الدفعة في أول دفعة صيدلة للكلية المستحدثة في مدينتي حمص، ومن السنة الثالثة شعرت أن المهنة بائع أدوية ولا يوجد فيها إعمال للعقل الصيدلاني أو الحكمة التي ينادون بها الناس الصيدلاني (يا حكيم)، مجرد بائع يستطيع القيام بمهنتك أي شخص آخر، فقمت بإجراء تحويل بدأ معي منذ العام الدراسي الثالث لأتجه إلى سوق التسويق والمبيعات الإعلاني في الصحف الإعلانية في بلدي، وإنشاء المنتديات على الإنترنت، ولم أعمل بالصيدلة بعد التخرج على الرغم من أن والدي قد أمن لي المحل التجاري الخاص والموافق للقوانين المعمول بها حينها، فأجرت المحل لصيدلي آخر، وانتظرت عامين، طورت فيها نفسي أكاديمياً في إدارة الأعمال في جامعة اللاذقية وبدأت ماجستير في التاريخ الطبي بجامعة حلب، على الرغم من السفر إلى عدة مدن بالإضافة إلى العمل كمندوب طبي في شركة أدوية في دمشق لم أكن نادم على ما أنا فيه، فأنا أجد نفسي في التعارف والتعرف على بيئات جديدة والدخول في عوالم مختلفة، لا أستطيع النوم بدون اكتساب خبرات يومية، إلى أن استطعت أخيراً الحصول على فرصة الماجستير في التشخيص المخبري، فبدأته وأنا أعرف أنه سيأخذ منّي وقت لمدة أربع أو خمس سنوات، أي بما يعادل دراستي للصيدلة كاملة، ولكن شعرت أن ما سأتعلمه في هذا التخصص سأطبق منه أكثر من 10 بالمائة وهذه النسبة لم أحصل عليها في الصيدلة، كما أن هناك تخصصات فرعية لهذا النوع من العلوم لا يمكن لأي شخص أن يتقنها، إذاً هذا سيلبي الطموح.
لم أغِب يوماً عن تطوير نفسي في علوم إدارة الأعمال خلال سنوات التخصص، ولم أخذل الصيدلة التي اختارتني يوماً ولم أنقطع عنها، لكن كلما أشعر أنني على خطأ أذهب إلى صديق يمارس عمله كصيدلي وأجلس معه لبرهة؛ لأجد نفسي مضجر من الصيدلة بقالبها الحالي، وأعود غير متردد إلى المخبر والمجهر ورائحة الكيمياء والملونات والأصبغة والى سحب الدم من الأوردة الضيقة، هذه الأوردة كانت تثير الحماس داخلي وعندما انتصر عليها أشعر وكأنها ذابت خجلاً واندثرت بين اللحم، فأنا أجيد امتصاص الدماء، ههه نعم سحب الدم فله متعة خاصة، ومتعة رؤيته تحت المجهر وتشخيص المرض أو تفريق نوع الجراثيم المسببة لالتهاب عند شخص، أنا أجد نفسي هنا وليس في بيع الأدوية.
أنا أجد نفسي في التفريق بين التفاصيل الدقيقة ومتابعتها والاستمتاع بتصنيفها وإدارتها، وهذا لم يكشفه النظام التعليمي الخاص بنا، فنحن نفرز حسب معدلنا الذي نلناه بقدرتنا على الحفظ عن ظهر قلب في معظمه، ولذلك لم يفرزنا، ولكن هل الصيدلة سيئة لهذه الدرجة يا صيدلي يا أيمن؟!
لا، ولكن في مهنة الصيدلة وعلى اعتبار مهنة الأدوية وتجارة السلاح هما الأعلى دخلاً حول العالم فقد تدخل فيهما بشكل كبير الحكومات والدول، أما مراقبة لكي لا تتم المتاجرة بالأدوية بشكل غير مدروس وكسب إيرادات مالية ضخمة أو تمت السيطرة عليها في بعض الدول التي جعلت من الصحة جزءاً من السيادة الوطنية، ففي الأولى تمت قوننة وحوكمة المهنة إلى درجة جعلها عملية بيروقراطية بشكل مزعج، حتى غاب عنها الحكمة، وجمالية الخيال الذي نسجناه عن علماء الصيدلة والأعشاب كالرازي وغيره، أما في الدول التي جعلت الصحة والتعليم مجانياً لتبقي على المواطن تحت جناحها وتقتل الإبداع في هاتين المهنتين، فمهما كانت درجة التخصص التي حتى وإن فكرت السفر خارج بلدك لنيله، ستعود لتصطدم بقوانين نقابية وصحية تعيدك إلى المربع الأول، أنت بائع أدوية كالبقية واذهب أنت وتخصصك فقاتلا، هنا ستخضع لقوانين نقابية موضوعة منذ سنين طويلة، من أشخاص نسجوا دراما اسمها مجتمع مدني لكن بمسميات (النقابة والقطاع المشترك) وما إلى هنالك من مسميات للمراوغة بأن تنظيم المهن يتم من قِبل ممارسيها، كما في الدول الأخرى التي جعلت وسطاء بين المريض والصيدلي أو المريض والطبيب هي شركات التأمين، وما إلى ذلك.
لقد علمتني الصيدلة الخيال الذي كنت أستخدمه لتصور المركبات الكيميائية وشكل المورثات وكيف ترتبط معها، واستخدمت معها الدعابة الحمصية لتقريب الصورة لطلبة الصيدلة الذين قمت بتدريسهم في الجامعة، فعلى سبيل المثال كنت أقول لهم إن الرجل كذرة الكربون لها أربعة روابط، تستقر عند ارتباطها بأربع ذرات هيدروجين وهكذا الرجل يستقر بارتباطه بأربعة وهنا يتولد غاز الميتان الذي يستخدم كغاز منزلي سريع الاشتعال.
نصيحتي لكم أن تختاروا تخصصاتكم حسب شغفكم، وسأفرد لكم في سلسلة تدوينات داوني على هذا الموقع عدة تدوينات عن التخصصات الطبية والفروق بينها لمن يرغب بدخول عالم الصحة والطب، وأيضاً وبشكل عام لا تعيشوا حياة الآخرين، ولا تسمحوا لهم أن يصمموا لكم حياتكم، ولأصحاب المهن ممن يرون أن الإدارة تعني الزعامة وحب السلطة، سيبقى الوضع مزرياً طالما لم تتعلموا إدارة شؤونكم، كما الأوطان التي بعدنا فيها عن السياسة وأسرارها الآن وقعنا ضحية سياسات غيرنا، حيث أقنعنا أنفسنا أن الذي لا يأكل اللحم إذا ضاع في الغابة سيبتعد الذئب عن أكل لحمه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.