مترو إسطنبول

أجل "المترو" يعرف الكثير، وأحياناً يتألم من رحلاته الطويلة التي تبدأ من الساعة السادسة صباحاً وتنتهي الساعة الثانية عشرة كل يوم، لكنه لا يمل الترحال في إسطنبول، يشغل نفسه بجمالها وزوارها، ولؤم ذكرياتها وبراعة حكاياتها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/03 الساعة 07:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/03 الساعة 07:39 بتوقيت غرينتش

ليس سهلاً علينا أن نودع أشياء كنا نحبها، وليس سهلاً أن نختار بين أحلامنا وواقعنا، لكن لو كنا نملك مفاتيح الحياة لما عرفنا كيف نختار بين ظرف وآخر، ولأسقطتنا المفاهيم كما تسقطنا وتعرينا أحيانا الكلمات.

تلك النظرات التي يبادلها زوار "المترو"، أي محطة الأنفاق في إسطنبول التي تنتقل من مكان إلى آخر، تجعلك تفكر لوهلة أن حياتك بمجملها كتلك النظرات.

إحداها خاطفة، وأخرى عميقة، غيرها خبيثة، وإحداها حزينة، سعيدة، كاذبة، وبعضها مليئة بأشياء لا تستنشقها الكلمات.

دموع فراق في منتصف الذاكرة، أحلام لم تعرف الاستيقاظ، باقة ورد عالقة لا تصل لأسباب تافهة، عناق مخدر إلى حين، وقلوب ممزقة الملابس، وابتسامة لبقة للحنين، ودموع مغموسة بالطين، والمطر يغزو الحكايا التي غرقت ولم تجد مدفأة بعد، أو حضناً صيفياً أميناً.

المقاعد مليئة ونادراً جداً ما تجد مقعداً فارغاً تجلس عليه خلال تنقلك من مكان إلى آخر، فيزدحم "المترو"، وتتعلق الأيادي، وتضيع النظرات.

المقاعد ليست فارغة لتتسع لقلوب أهملتها الحياة، هي مليئة تتسع جسد الإنسان من كل ما هب ودب، حتى وإن لم تتسع روحه وكل ما في داخله، هي مليئة بقدر هموم الإنسان وانشغالاته بين ازدحام الأفكار، وإن اختلفت جنسياتنا ولغاتنا وأشكالنا.

كم فكرة تخطر كم ذكرى تعبر؟ وكم حكاية لربما تشهد عليها زقاق هذا "المترو" العظيم وعيون أخرى اعتادت تبادل النظرات؟!

أجل "المترو" يعرف الكثير، وأحياناً يتألم من رحلاته الطويلة التي تبدأ من الساعة السادسة صباحاً وتنتهي الساعة الثانية عشرة كل يوم، لكنه لا يمل الترحال في إسطنبول، يشغل نفسه بجمالها وزوارها، ولؤم ذكرياتها وبراعة حكاياتها.

ياااااااه.. كم يمر بشر خلال اليوم؟! كم قصة؟! كم ثانية يغدو ويجيء الإنسان، الكبير والصغير، القصير والطويل، الجميل والقبيح، وفجأة يفترقون ويبقى "المترو" كعادته يزاول مهنته ما بين لقاء وفراق، مواظباً بلا تردد وإن تعطلت مكابحه قليلاً يستعير ببني البشر ليعود ويكمل مشواره الجنوني.

يتوقف المترو ما بين محطة وأخرى يعبر أناس ويخرج غيرهم وتغلق الأبواب، وكالعادة هنالك عالق ما ركض كثيراً، لكنه لم يلحق مواعيد القطار، تأخر لأسباب لا يهم إن كانت مقنعة أم لا، من قال لك يا "غبي" إن المترو سينتظرك حين تستيقظ من نومك وتشرب القهوة وتحضر الطعام وتأخذ دشاً وترتدي ملابسك، وتلقي التحية على جارك، وتحادث صديقة من أيام المدرسة تعيقك قليلاً؟ للمترو مواعيد أيضاً إن لم تحترمها عليك أن تنتظر موعداً جديداً، وقد يضيع عليك الكثير.. "المترو" لا ينتظر تماماً كالحياة.

ما أشبه الحياة بهذا المترو! ما أشبه ضجيج تنقلاته بأرواحنا وقلوبنا المليئة بالإزعاج!
ما أشبه سرعة التنقل ما بين منطقة وأخرى ومصادفة وأخرى، وصدمة وخيبة أخرى، بلحظات الحياة وانبعاثات الآمال ورحيلها!

كم مرة توقف هذا الكائن الذي لا يشعر لربما؟ وكم مرة وصل المحطة الأخيرة وعاد من جديد؟ كم مرة تأذت مكابحه في وسط الطريق؟ ولأنه لا يتعلم عاد الكرة من جديد.

كذلك الإنسان صعد وجلس وانتظر محطته وخرج، وصل في موعده أو حتى حال بين شيء وتأخر، نسي نفسه وذهب إلى محطة أخرى، وبين طريق وآخر حكاية، وردة، ابتسامة، صحوة، ونوم.

أصدقاء تلاقوا صدفة قدرية تعانقوا وتبادلوا أطراف الحديث هذا تزوج، هذا عاشق، هذا مهموم، وحزين يبتسم بعيون ناعسة منسية، عجوز في التسعين يركن عكازه يدير ظهره للسنين يخاف المحطة الأخيرة يخشاها كما يحن للقائها.

وطفل دخل القطار بالخطأ، يبيع السكاكر بليرة يتكلم العربية والتركية والكردية، وتعيس حظ غالباً لا يجد مقعداً فارغاً يجلس عليه وسط الازدحام الكبير وإن وجد يجلس بجانب مجنون أو عجوزة ثرثارة، وفتاة عشرينية تذكرني بنفسي تحاول أن تجاري سرعة المترو في استراق النظرات تضع يدها على النافذة، وترسم قلبها.

تحاول لمس كل شيء جميل في شوارع إسطنبول كلما خرج المترو من ظلامه إلى الحياة حتى يعود إلى الأنفاق من جديد.

وما بين الظلام والنور عيون وشجون وسجون، كلمات وعشق وقبل.. وحب مدفون.. ابتهالات الأفكار.. خيانات.. أياد متماسكة.. شظايا أحلام.. و"زبون" يحل محل "زبون".

ورغم الشتاء الغزير الذي يتكاثف مع أصوات مكابح القطار ليصنع في ذاكرتك المأساوية لوحة مرعبة أحياناً مع الأسف فإنك تقف حيث أنت تعيد ترتيب ذاكرتك، تصنع في مخيلتك رقصة "slow" في إسطنبول تحت المطر.. كأن ترقص على أغنية
"Sıcak Sımsıcaksın" التركية مثلاً.

وفجأة في الوقت بدل الضائع، فكرة جديدة طارئة تأتي على سجيتها، تحدثك عن الحياة، في المحطة قبل الأخيرة تستقبلك تخاف أن تحضنها في ذلك الوقت المتأخر، ليس لأنه عيب، بل لأنك تعلم أنك تسير تماماً ما بين محطتين خطيرتين والمغامرة هنا سيئة جداً، لكنها شرعية وواردة، تماماَ كالموت والحياة.

ومع الاعتذار للشاعر تميم البرغوثي، ولكن رسالة قطار الحياة في هذا الوقت الطارئ ولربما كل وقت تقول لك:
في "المترو" من في "المترو" لكن لا أرى إلا أنت.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد