نظرية المؤامرة.. بحد ذاتها مؤامرة

تلك القوى العالمية بترساناتها الأمنية والاستخباراتية حاكت المؤامرات لغير المسلمين كما حاكتها للمسلمين، فقد سبق أن تصارعت فرنسا مع بريطانيا، وبريطانيا مع الصين، والصين مع اليابان، واليابان مع الولايات المتحدة الأميركية، فنحن لسنا مركز الكون لنتوهّم أن قوى العالم تركت أعداء لها يوازنوننا في القوة العسكرية والأمنية لتنشغل بحروب هامشية معنا، وأعني بالهامشية أي أنها لا توازي الأهمية الاستراتيجية لتلك التي خاضتها مع نظرائها ممن يمتلكون القوة والسطوة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/02 الساعة 07:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/02 الساعة 07:58 بتوقيت غرينتش

باتت نظرية المؤامرة مادة جدلية حية في الأوساط الفكرية والتنظيرية، وخصوصاً بين العرب والمسلمين، وأصبح الكل يدلي بدلوه في هذا المضمار، محاولاً تفسير التعقيدات والتناقضات والاضطرابات التي تعصف بالمحيط المحلي والدولي، وإيجاد صورة واضحة عن الغموض والضبابية التي أرقت شريحة كبيرة من المفكرين بمختلف توجهاتهم وأطيافهم، فأدى العجز في فهمها إلى إلصاق مجريات الأحداث العالمية بكل أقطابها وأطرافها إلى نظرية المؤامرة، وغالباً تكون الماسونية في نظر المؤمنين بها -أي النظرية- من تحرك دفة العالم والأحداث التاريخية المفصلية للتمهيد لظهور الدجال.

عزز الجدل حول نظرية المؤامرة في اﻷوساط العربية ما ضجت به شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي من مقاطع فيديو تتناول هذا الأمر بكل جدية، والتي من أشهرها سلسلة (المتنورين)، وقد حصدت تلك المقاطع ملايين المشاهدات، رغم أنها لا تمتلك أي دليل ثابت أو طرح منطقي يعزز محتواها وما تتضمنه، مما جعل نظرية المؤامرة جدلاً قائماً بين غير المثقفين والمفكرين من عوام الناس، فانقسم الناس في هذا الشأن إلى فريقين: الأول يثبت نظرية المؤامرة إثباتاً مطلقاً لا نزاع فيه ولا خلاف، حتى تحولت إلى حالة مرضية لدى هذا الفريق وصلت حد الهوس، والآخر ينفيها نفياً مطلقاً.

قبل الدخول في لب الموضوع، لا بد أن نعرج إلى صحة وصف هذه الظاهرة بـ"النظرية".

النظرية بمفهومها العلمي تقوم بتفسير ظاهرة قائمة ولا خلاف في وجودها، وهذا الأساس الذي تقول عليه أي نظرية علمية، وهو وجود الظاهرة نفسها، بغض النظر عن صحة التفسير الناتج عنها، أما إطلاق المصطلح بمفهومه العام فيعني "الرأي أو الفرضية"، وفي هذا الإطلاق لا يتوجب أن تقوم النظرية (الرأي) على أي قواعد وأسس علمية أو واقعية، فلا إشكال في وصف هذه الظاهرة بـ"النظرية" إذا ما أطلقت بمعناها العام الذي اصطلح عليه، طالما تحاول فهم صورة معينة ﻷمر معين، أو بناء فكر جديد وطرح منطقي، بغض النظر عن موافقتها للواقع من عدمها.

رغم ما وصلت له القوى الغربية والعالمية من تطور كبير في جميع المجالات الحياتية والنواحي العسكرية، والأمنية، والاستخباراتية، والتجسسية، فإن هذا لم ولن يجعلها آلهة تتحكم في الكون، وتسير الأحداث العالمية جميعها، فمن العجب أن نسمع أصواتاً تخرج من بين ظهرانَينا تنسب كل حدث معاصر، بل وتاريخي أيضاً، للقوى العالمية، فتلك الأجهزة رغم تفوقها الأمني والعسكري والاستخباراتي لم تكن مسؤولة عن تسيير التاريخ على منحى معين، ولم تكن مسؤولة عن حوادث طبيعية كفيضانات تسونامي أو زلزال هايتي أو انتشار مرض الإيبولا في إفريقيا، كما نسمع بعض الأصوات تردد هذا الأمر، فهذه الأحداث من صنع الخالق ولا إله مع الله كي يتحكم بالطبيعة.

فلا يمكن لعاقل أن يتصور أن الـ(CIA) أو الموساد أو غيرها من أجهزة الاستخبارات بمعلمٍ بكل صغيرة وكبيرة، أو أنها ترى النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء.

تلك القوى العالمية بترساناتها الأمنية والاستخباراتية حاكت المؤامرات لغير المسلمين كما حاكتها للمسلمين، فقد سبق أن تصارعت فرنسا مع بريطانيا، وبريطانيا مع الصين، والصين مع اليابان، واليابان مع الولايات المتحدة الأميركية، فنحن لسنا مركز الكون لنتوهّم أن قوى العالم تركت أعداء لها يوازنوننا في القوة العسكرية والأمنية لتنشغل بحروب هامشية معنا، وأعني بالهامشية أي أنها لا توازي الأهمية الاستراتيجية لتلك التي خاضتها مع نظرائها ممن يمتلكون القوة والسطوة.

لا أرى نظرية المؤامرة بمنظورها التي يراها أصحابها، كما أني لا أنفيها بالمطلق، نظرية المؤامرة موجودة بلا شك، وقد ثَبتت في القرآن الكريم، في قوله تعالى في وصف مكر الأعداء: "وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال"، لكن لا يجب أن نجعلها سجناً لعقولنا ومعنوياتنا، وتحويلها لأداة طلاء تكسو مستقبلنا باليأس والسواد، وجعل الأمر أشبه بـ"بُعبع" نخشاه إن فكرنا أن نخطو خطوة للأمام، فتجعلنا نخاف حتى من التفكير في النهوض.

طريقة تعاطينا مع نظرية المؤامرة طريقة سلبية، جعلت منها حاجزاً وعائقاً أمام أي تغيير حقيقي في مجتمعاتنا، فكل ما نعجز عن تحقيقه نحمله للقوى العالمية، ونلصق فشلنا في جميع مناحي حياتنا وعجزنا عن مواكبة التطور العالمي للماسونية العالمية والصهيونية اليهودية.

الخلاصة: لا بد أن ندرك أن نظرية المؤامرة موجودة حتماً قطعياً، لكن التطرف في التعاطي معها سواءً بالإيمان المطلق بها أو نقيضه سيجعلها بحد ذاتها مؤامرة، ومواجهة المؤامرة بالوعي الفكري خيرٌ من جعلها شماعة لنعلق عليها كل نكسة ونكبة وفشل يصيبنا، الأمر الذي حولناه إلى سم صنعناه وكنا أو متذوقيه، أو قل بُعبع فرخناه حتى غدا خارج سيطرتنا، فأدى لانزلاق الناس للسطحية والسذاجة عند أغلبهم وأفضلهم حالاً، فضلًا عن أولئك الذين انزلقوا في الهاجس الذي تطور إلى هوس فكبّلوا أنفسهم بأنفسهم ومفاتيح سجنهم بين أيديهم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد