مدارس أم فقاعات تفريخ؟

مدرسات يفضلن بين التلامذة على حسب الوضع الاجتماعي أو السلوك أو الأداء الأكاديمي، وكأن المعلم من حقه أن يختار من يعامل بشكل جيد ومن يحتقر.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/30 الساعة 07:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/30 الساعة 07:16 بتوقيت غرينتش

أنظر من حولي هذه الأيام وأرى الناس يتحدثون عن المدارس وبداية المدارس ومصاريف المدارس ومستلزمات المدارس وكرههم للمدارس. عندما أتذكر أول يوم دراسي لي أتذكر أنني طلبت من أمي أن أرتدي غطاء رأس أبيض، لأنني ظننت أن كل الفتيات الكبيرات يرتدينه، وأنا أردت أن أكون من الكبيرات بشدة. وقفت وأبي ممسكا بيدي تقابلنا مدرسة الفصل وكانت فتاتاها التوأمان تختبئان خلف حائط قريب تنظران من بعيد إلى هذه الطالبة الجديدة. في البدء كانت المدرسة مبهرة أخاذة كما كل شيء جديد في حياة الطفل. كانت كبيرة وكانت تمثل مستقبلاً، تنتهي من مرحلة فيه لتنتقل إلى أخرى، طريق سبق تحديده عليك فقط أن تسير فيه كما هو مطلوب منك.

هناك طبعاً بهجة الأقلام الجديدة والحقائب التي تلمع والدفاتر النظيفة، الانبهار بالزي المدرسي المعتاد، أو رائحة الحذاء الجلدي التي لم نعد نتحملها الآن، ولكنها عندها كانت دليلاً على أننا نكبر وننتقل من عام إلى آخر ونستحق بصورة ما أن ينظر إلينا على أننا أنجزنا. إنجازٌ غريب عندما أنظر إليه الآن لا أفهمه. إنجاز حفظ الكتب وتسميعها، وفهم بعض المعادلات وحلها، والتعامل مع مواقف لا تمت للعالم الكبير غير المحدود بصلة.

ثم تبدأ المدرسة شيئاً فشياً تبدي لنا ما كان خافيًا، الأطفال الذين علمتهم أمهاتهم أنهم أفضل من غيرهم لأنهم يشترون احتياجاتهم من المكان الفلاني، وآخرون يفتقدون للحب فيتصرفون بشكل عدواني يؤذي من حولهم، وآخرون يسمو غيرهم بالفشل لأن درجاتهم أقل قليلاً أو كثيراً. مدرسات يفضلن بين التلامذة على حسب الوضع الاجتماعي أو السلوك أو الأداء الأكاديمي، وكأن المعلم من حقه أن يختار من يعامل بشكل جيد ومن يحتقر.

أذكر أنني حتى المرحلة الإعدادية كنت أتعامل مع معلماتي وكأنهن كيانات لا يمكن المساس بها، الاحترام والتقدير والرعب من أن تستاء المعلمة كانت مسيطرة على تفكيري الطفولي الصغير، ثم بدأنا مرحلة التساؤل حول كل شيء، والتمرد ربما فأخذت الهالة تتصدرع وتتشقق، وأخذنا نرى أن المعلمات لسن سوى بشر مثلنا، وأنهن لسن دائماً مؤهلات حتى للتعليم، بل قد تتعدى طفولة إحداهن طفولة أنضج تلميذاتها.

لم تعد المعادلة سهلة وبسيطة، ولم يعد معدل دراسي جيد يكفي حتى أجد تلك الراحلة التي كانت تتحقق به. أذكر أنني بعد تفوق سنوات بدأت أفقد الاهتمام بالمعدل المثالي، ساعد على ذلك النظام العقيم الذي يمحو لك السنوات والعمل فيها في مقابل سنة واحدة فقط، لا بل امتحان واحد فقط في نهاية العام. أصبح لا التفاني في "ختم" المنهج غير ذي قيمة، وبدأت رحلتي مع الكتب. بدأت أهرب من ذلك العالم الغريب المزيف إلى عوالم أخرى خارج ما عهدته، بدأت أتعلم أن الأمور ليست مجرد صداقات سطحية لا اختبار فيها لثبات صديق أو صدق رفيق، وليست مجرد عملية بسيطة من الدراسة ثم الامتحان وانتهى.

عندما بدأت أخرج من الفقاعة لم أعد أحس بأنني أنتمي إلى الأفواج التي تسير، ولكنني في نفس الوقت كت قد اعتدتها إلى الحد الذي جعل فكرة الانفصال عنها غير واردة في ذهني. حتى جاءت المرحلة الجامعية، وتفرقت الأسراب وتحرر المرء قليلاً من سطوة المجموعة. كانت لحظة الانهيار الكبير في سنتي الثانية على ما أعتقد، انفجرت هي الكلمة المناسبة، قلت لم أعد أستطيع أن أمضي الأيام في دوامة "الشلل" والتجمع حول مائدات الطعام والثرثرة ما تبقة من اليوم بين المحاضرات، المحاضرات ذات نفسها لم تكن على القدر الذي أحتاجه إلى ما ندر منها، فاتسع ثقب الفقاعة أكثر فأكثر، وكلما اتسع بدى وكأنني أنا التي أنعزل، لا أنني أخرج من عالم معزول.

اعتقد كثيرون أنني أفني حياتي في البحلقة في الكتب الدراسية والمقررات، وأنني أرتاح كثيراً في بيئة دراسية تعتمد على الامتحانات والتقييمات، ولكن الحقيقة أنني كنت أسترسل فيما أرى فيه قيمة أو يعملني شيئاً حقيقياً، أما الشهادات فكانت وسيلة ليس أكثر. لست حالمة ولا منكرة لحقيقة أننا نحتاج لها، أعي أنني لا أستطيع أن أدفع تكاليف الجامعات واحدة تلو الأخرى إن أردت أن أستكمل رحلتي في المجال البحثي، فكان لابد من العلامات الكاملة، وكان لابد تحمل المواد التي بدت غبية لا تستحق الوقت الذي أقضيه لدراستها، وكان لابد من فهم الطريقة التي تتم بها هذه العملية التعليمية حتى تستطيع بصورة ما الانتصار عليها.

كنت وما زلت أؤمن أن فكرة دفع النقود من أجل التعلم فكرة طبقية استهلاكية فرضت فرضاً. خصوصاً في المرحلة الجامعية التي لنكن واقعيين هي التي تحدد في غالب الأمر الطريقة التي ستسير بها المجتمعات. كلما سألني أحدهم في أمر التعليم، أقول إن كان بقدورك الحصول على منحة وأنت فعلاً راغب فقد أكمل، أما خلاف ذلك فهناك خيارات كثيرة ربما تكون أكثر ثراءً وأجدى عائداً.

نحن لا ندخل المدارس ولا الخط التعليمي حتى نتعلم مهارات حقيقية، نحن ندخل مزارع تدجين تخرجنا كائنات موحدة النظرة، محدودة القدرات، لا ينجو منها إلى من تيسر له أن يفتح باباً إلى الخارج، ولا يدرك سوءها إلى ذات الأشخاص، لهذا فإن الـ"مكنة" تدور كما نقول، ولا أحد يفكر في أنها ربما تكون معطوبة، ببساطة لأن العطب ليس في قماش ممزق أو قطعة كهربائية لا تعمل، العطب في العقول والعقول تختبئ خلف الكثير من البروتوكولات الاجتماعية، والقوانين القبلية، وحقيقة أننا نسير كالقطيع إلى حيث هو مطلوب ومقرر.

لدي طفلتان الآن، أعرف جيداً أنني لا يمكن أن أتركهما تغرقان في الفقاعة، ربما لن أستطيع أن أخرجهما منها كلياً، ولكنني سأفتح لهما باباً واسعاً جداً، تخرجان وتدخلان، وتعيشان وهما مدركتان تماماً لحقيقة أن الحياة بها الكثير من الفقاعات، وأن سطوة كل واحدة منها لا تتحد إلا إذا فشلنا في إدراك وجود أخريات، ونحن نكبر وننضج ونكتسب أبعادنا كبشر كلما تحررنا من البيئات المختلفة التي تقيدنا، وقيمنا تجاربنا واخترنا منها ما نريد له أن يكون جزءاً منا.. وكفى.

هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة مدونات

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد