يبالغ الإنسان (menselijk) في الضغط على أيامه نكداً، وهو الذي يدرك أكثر من غيره أنّ الإنسانية قادرةٌ على احتواء الجميع بجميع حمولاتهم؛ لهذا من العجيب أن يرى الفرد ذاته في دائرة لا يفقه أسبابها ولا مراميها، ولا هو من الهاضمين لمقاديرها ومساعيها؛ لأنّ كافة التفاعلات البشرية هي مجردة من تفاعلات أكثر تعقيداً، تلك التي تحدث في الداخل الإنساني.
من البساطة أن يصبح الإنسان جاهلاً، من العنف أن يكوّن الذات التي تتعقد بسرعة وبطرفةِ عين، من الندرة أن يعوم الإنسان وسط قيم لا يفقه مداها، سوى بغرض قضم عزاء الإنسانية أمام تقلبات البشر، ليس هناك كثير من هبات الأفراد رِفقة بذواتهم، ولكن العام والجليل هو الأقرب لتيسير مسارات الإباء رأفةً بالإنسان عينه.
في نهاية الصغر يلتقي الإنسان بالأسطورة صدفةً، ربما هي الصدفة الوحيدة في حياته، فيعمد إلى محاولة يائسة تجعله أمام هذه المقدرات بلا تبريرات؛ لأن الأسطورة تفعل فعل السحر بالروح الإنسانية، هي تلهم الإنسان في الوقت الذي تبعده فيه عن جادة الحياة (leven)، فهي إما تنفث فيه حياة، أو تقتل فيه كل ما هو حيّ.
للأسطورة زمانها وبقاؤها، لها عدّة ترانيم تؤجج خصوصياتها، لها مشاهدها التي تحضر في النفس (ziel) البشرية فتحكي عنها ولها، ولها تجاربها أثناء خوضها معركة البقاء مع الزمان، لهذه الخصائص تأثيرات متبادلة الحضور بين الأسطورة ومن يعتنق مساراتها المتنوعة، أين تنحت موقعها بالكيفية المناسبة في الظرف المناسب؟
لطالما عجز الإنسان عن الفهم (begrip)، ولطالما انساق باتجاه هوى يكره مداه كلما تأجّج بداخله، الحيلة هي العدوّ الأبرز للوجدان الإنساني، كثير من البشر يبقون سجناء ذواتهم في تعاستها كنتيجة مباشرة لحِيَل نسجوها طمعاً في وَهْم "النجاة والرفاه"؛ إنها ألغاز الأسطورة في أثناء سباحتها ضمن نطاق سمومها الخفية.
لا تصدق الأساطير التي تعدك بالقول إنك ستصبح أكثر سعادةً، لكن هذه السعادة لن تكون بأفضل من الخنوع لمكانة لطالما عززتها قطرات نزيف بعد الدوس على الشوك الحاد، ما من ابتسامة (glimlach) مجانية دون دفع ثمنها من الدم أو الدمع، اسألوا عظماء الماضي عن ذلك، سيجيبوننا بقصص تلتهب بالبطولة وشقائها، بالترف ومآسيه؛ لأنهم اعتقدوا توهماً مثلما نفعل الآن أنهم سيسعدون إن آمنوا بأساطيرهم التي وُلدت معهم.
في الحب والحياة والبقاء والنفاق تدور أحداث كل تراجيديا من كل أسطورة، في غمرة الحياة تثبت الأيام مآسي التخطيط العقلي لتفاصيل المجهول (anoniem)، هو وَهْم "السيطرة"؛ تلك التي صارت مفهوماً مقدساً من أجل بلوغ الرفاهية التي تبخّرت على سندان الواقع منذ فجر التاريخ، ونزل بخارها أدراج كافة الكنائس القديمة؛ ليستقر في أقبيتها كعطور للقبور.
عندما تصدق الأسطورة أيها الإنسان فإنك تكذّب ذاتك وتنحت حذفك بفرح، ما أصعب أن يرتدّ الصمصام إلى قفا الضيغم، وما أروع أن يعاود الإنسان الاستفهام حول سراديب الإيمان كل حين، فإن ما خلص إلى ذاته حضنها واستقر باكياً بين أحضانها، فلا أساطير يمكنها أن تفكّ أغلاله، ولا أيام منطقية يمكنها إسعاده، والفرق بين الاثنتيْن كالفرق بين الموت والانتحار.
من أبهى الأمور وأمرّها أن يتفطن الفرد إلى نقطة ستصبح هواه ونجواه، هي تلك التي تنقذه من جهل لتصبح معارفه كالإبر التي تخزه في كل حركة يقوم بها؛ ليذوب الفرق بين الجاهل والأكثر جهلاً، عندها يتألّم المرء كما يتألّم باكي الحسيْن يوم عاشوراء، فلا فائدة من قوم لا يملكون تراجيديا (tragedie) في الحياة، ولا أمل في قوم لا يعون من الأيام سوى نصيب العيّ من الشيم، هذا هو قانون الحياة اللاذع، لكنه يلذع فقط صاحب اللب الحيّ الذي تبرع به طوعاً لمالكة لبّه بشكل أبدي، ربما هي آمال من أولياء الحياة الصالحين الذين يتمنون الرحيل قبل موعد رحيلهم؛ لأنهم اكتفوا كفاية لا جدال فيها من جواهر أثمنها تسمى جواري.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.