مركز الشؤون الإسلامية والدولية بإسطنبول: مبادرة جديدة لدراسة وضع المجتمعات الإسلامية ودور تركيا فيها

هذا وقد أُنشئ مركز الشؤون الإسلامية والدولية في جامعة صباح الدين زعيم بإسطنبول مؤخراً لدراسة هذه القضايا، كمؤسسة سياسات عامة بحثية مستقلة وغير هادفة للربح. تتمثل مهمة هذا المركز في إجراء أبحاث وتحليلات عالية الجودة، وتثقيف العامة وصانعي السياسات، وتدريب الخبراء واقتراح أفكار جديدة وتوصيات سياسية بخصوص السياسات والعلاقات الدولية التي تؤثر في العالم الإسلامي وتطوير المجتمعات الإسلامية وتقدُّمها

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/28 الساعة 04:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/28 الساعة 04:36 بتوقيت غرينتش

إذا أصدرنا حكماً استناداً إلى عناوين الأخبار فقط، فسيلحظ المرء أنَّ الحرب، والاستبداد، والمستوى الهائل للمعاناة الإنسانية قد هيمنت بشكلٍ مأساوي على الجزء الأكبر من تاريخ الشرق الأوسط الحديث.

غير أنَّ المنطقة الممتدة من شمال إفريقيا إلى آسيا الوسطى، ومن الأناضول حتى إفريقيا جنوب الصحراء، قد قدَّمت على مدى قرونٍ مساهماتٍ لا حصر لها في الحضارة والثقافة. وقد أثبتت هذه الحضارة نفسها عن طريق إحراز تقدُّمٍ كبير وبذل مساعٍ مهمة، بما في ذلك مجالات الفلسفة والقانون، والفقه والتصوف، والحكم والنظام الاجتماعي، والهندسة والتنمية الحضرية، والتجارة والعلاقات الدولية، والعلم والتكنولوجيا، فضلاً عن الأدب والفنون.

وفي مختلف أنحاء هذه المنطقة الحيوية من العالم، لم تتعايش الشعوب، والأمم، والقبائل من مختلف الأعراق، والثقافات، والديانات، واللغات في سلامٍ فحسب؛ بل وتعاونت أيضاً لبناء واحدةٍ من أطول الحضارات بقاءً وأكثرها تأثيراً بالتاريخ. في الواقع، لقد ثبت جلياً أنَّ هذه الحضارة لعبت دوراً رئيسياً في التأثير على كبار الفلاسفة والمُنظِّرين السياسيين الغربيين إبَّان عصر التنوير، بمن فيهم الآباء المؤسسون لأميركا.

وعلى مدى قرون، تأرجحت العلاقة بين بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من جهة والبلدان الأوروبية من جهةٍ أخرى بين المواجهة والتعايش. لكن مع ظهور الحقبة الإمبريالية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، استعمرت القوى الغربية معظم تلك المنطقة، وبلغت الذروة بانهيار النظام القديم ونشأة نظام الدولة القومية، ليس في شمال إفريقيا والشرق الأوسط فحسب؛ بل في مختلف أنحاء العالم أيضاً.

وكانت الكثير من الدول المُنشأة حديثاً عبارة عن كياناتٍ مُستحدَثة تعسُّفياً صُمِّمت بالأساس لخدمة المصالح الاستعمارية. وفي كثيرٍ من الحالات، أُنشِئَت الأنظمة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والقانونية دون اعتبارٍ للتاريخ أو المنطقة، أو التقاليد والعادات المحلية، أو القيم الثقافية والممارسات الدينية. وباختصار، تشكَّلت الظروف الحالية للمنطقة التي أصبحت الآن العالم الإسلامي إلى حدٍ كبير من خلال خبرة الاستعمار الغربي.

وبحلول النصف الثاني من القرن العشرين، حصلت معظم تلك البلدان على استقلالها الصوري عن الحكم الاستعماري المباشر، وخضعت الكثير منها لأنظمةٍ سياسية إمَّا مستبدة، أو فاسدة، أو ضعيفة، أو مختلة وظيفياً. وقِلَّةٌ منها فقط، إن وُجِدَت أساساً، استطاعت تأكيد استقلالها الفعلي عن رعاتها الأجانب السابقين، أو تحويل أنظمتها السياسية لتصبح مُمثِّلة حقيقةً لشعوبها، أو مُجسِّدةً لتطلُّعات تلك الشعوب.

وفي ظل وجود نظامٍ سياسي مغلق وخانق، ونظامٍ اقتصادي راكد يعتمد إلى حدٍ كبير على الدعم الأجنبي، وتفاوتٍ اجتماعي حاد بين النخب الحاكمة وغالبية الشعوب، أصبح جلياً أنَّ الشباب المحرومين، الذين يُشكِّلون أغلبية السكان على نحوٍ متزايد، سيتحرَّكون في نهاية المطاف بهدف إعادة هيكلة مؤسساتهم السياسية، والضغط من أجل تطبيق إصلاحاتٍ اقتصادية واجتماعية شاملة، على أمل إقامة مجتمعٍ أكثر ديمقراطية، وحرية، وعدالة.

نظر الكثير من المراقبين إلى ظاهرة الانتفاضات العربية التي اجتاحت المنطقة في بداية عام 2011 باعتبارها تجسيداً للإرادة الجمعية الرامية إلى التغيير الحقيقي في أرجاء المنطقة. لكنَّ تلك التحرُّكات الشعبية الحقيقية نحو التغيير وإعادة هيكلة المجتمع واجهت 3 تحديات صعبة ومتشابكة، تتمثَّل في تحدٍّ ذاتي، إلى جانب تحديَين داخلي وخارجي.

ظهر ذلك التحدي الذاتي من خلال السذاجة السياسية، وانعدام الخبرة، ونفاد الصبر لدى الشباب الثوري، والافتقار إلى الرؤية الاستراتيجية، والشفافية، والاحتواء من جانب الحركات الإسلامية، وهما الطرفان اللذان يُمثِّلان وكيلَي التغيير الحقيقيَّين في الشرق الأوسط.

ومثَّلت قوى النظام القديم، التي احتكرت إلى حدٍ كبير أدوات السلطة الرئيسية في المجتمع، بما في ذلك السيطرة على الجيش، والشرطة، والنظام القضائي، والناتج الاقتصادي، ووسائل الاتصال- العقبة الأكبر أمام حدوث عملية تحوُّلٍ ديمقراطي سلس، أو تحقيق إصلاحاتٍ جادة ودائمة.

وفي الوقت نفسه، قام الكثير من الفاعلين الدوليين إمَّا برفض دعم المشاعر الشعبية الرامية إلى إحداث تغييراتٍ هيكلية، وإما بما هو أسوأ، فقوَّضوا بنشاطٍ تلك المشاعر، وهو ما أدَّى في نهاية المطاف إلى منع هذه التحرُّكات الشعبية من إحداث تغييرٍ حقيقي، وجرَّأ النظم القديمة وقوى الثورة المضادة.

ومع تطور ديناميات الصراع بين مؤسسات النظام القديم وقوى الإصلاحات الحقيقية الوليدة، أصبح من الواضح أنَّ التحديات الرئيسية التي تواجه البلدان والشعوب، وكذلك الكيانات السياسية والحركات الاجتماعية في المنطقة، قد برزت إلى السطح.

وفي نهاية المطاف، ستُحدِّد طريقة التعامل مع تلك التحديات الآفاق المستقبلية للمنطقة، سواء كانت في اتجاه مجتمعاتٍ ديمقراطية تحتوي الجميع وأنظمة سياسية شفافة على نحوٍ متزايد، أو في اتجاه نظامٍ سياسي أكثر اختلالاً وقمعاً، ينتج عنه صراعٌ، وفوضى، وانقساماتٌ مستوطِنة قد تقود في النهاية إلى دولٍ لا تؤدي وظائفها أو دول فاشلة. ومن المؤكَّد أنَّ مثل تلك النتائج المتناقضة سيكون لها تأثيرٌ واضح ومباشر على الأمن القومي والمصالح الاقتصادية للقوى الإقليمية والدولية، وكذلك على العالم بأسره.

علاوةً على ذلك، في الوقت الذي يكافح فيه الناس بجميع أنحاء العالم الإسلامي من أجل تأكيد هويتهم وصياغة مستقبلهم السياسي، وتأسيس حكوماتٍ تمثلهم وتعبر عن مصالحهم حقاً، ويسعون لكي تحقق آراؤهم تأثيراً أكبر فيما تقوم به هذه الحكومات بالفعل، يبدو أن معظمهم يعتقد أن هذا ليس قابلاً للتحقيق بفصل معتقداتهم الدينية عن السياسة جذرياً، ولكن من خلال إنشاء أنظمة سياسية تمثلهم ترتكز على التقاليد والأفكار والقيم الإسلامية.

ولكنَّ السياسات الأميركية والأوروبية تجاه العالم الإسلامي بصفةٍ عامة، والشرق الأوسط بصفة خاصة، إما تتجاهل وإما تحاول جاهدةً تقويض هذه الحقيقة. وحتى يقر صانعو السياسات العالمية، ولا سيما في الغرب، بهذه الحقيقة، ويبدأون صياغة سياساتهم على أساس هذا الاعتراف، ستكون مشاركتهم في المنطقة مشوَّهة للغاية، بالنسبة لشعوب المنطقة وكذلك المصالح الغربية والسلام العالمي.

من ناحيةٍ أخرى، تشمل بعض التحديات الصعبة التي تواجه شعوب المنطقة، والتي يجب مواجهتها وتسويتها في نهاية المطاف قبل تحقيق الاستقرار والسلام والتوافق بالكامل، تساؤلاتٍ عن الشرعية السياسية، وإرساء الديمقراطية، واحترام قواعدها، والحكم الدستوري وسيادة القانون، وإعادة هيكلة العلاقات المدنية-العسكرية، واستقلال القضاء، وشفافية ونزاهة الحكم، واحترام حقوق الإنسان، وتأكيد الهوية الثقافية ودور الإسلام في المجتمع، والتعامل بجدية مع قضايا الحداثة، والتطرف، والإرهاب، والطائفية، والقومية العرقية، والعدالة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية، والمساواة بين الجنسين، والتعددية، وحقوق الأقليات، والهيمنة، والاحتلال الأجنبي، وممارسة السيادة، والاستقلال الوطني.

هذا وقد أُنشئ مركز الشؤون الإسلامية والدولية في جامعة صباح الدين زعيم بإسطنبول مؤخراً لدراسة هذه القضايا، كمؤسسة سياسات عامة بحثية مستقلة وغير هادفة للربح. تتمثل مهمة هذا المركز في إجراء أبحاث وتحليلات عالية الجودة، وتثقيف العامة وصانعي السياسات، وتدريب الخبراء واقتراح أفكار جديدة وتوصيات سياسية بخصوص السياسات والعلاقات الدولية التي تؤثر في العالم الإسلامي وتطوير المجتمعات الإسلامية وتقدُّمها.

وفي نشاطه الافتتاحي، الذي سيُقام في الفترة من 8 أكتوبر/تشرين الأول المقبل وحتى 10 أكتوبر/تشرين الأول، يعقد مركز الشؤون الإسلامية والدولية مؤتمراً دولياً بعنوان "الأمة الإسلامية: إنشاء نموذج جديد وتحليل التحديات الحديثة".

ولكن، ما سبب عقد هذا المؤتمر الرائد في مثل هذه الأوقات المضطربة؟

بعد سقوط الخلافة العثمانية منذ قرنٍ مضى تقريباً، وظهور نظام الدولة القومية في جميع أنحاء العالم الإسلامي باعتباره نظامها الدولي الجديد، فقد مفهوم "الأمة" معناه التاريخي؛ إذ تجادلَ العديد من العلماء والأكاديميين من تخصصاتٍ عدة حول أهميته وتجلياته العملية في عالمنا الحالي.

وسيبحث هذا المؤتمر، من خلال مجموعة من العروض التقديمية وحلقات النقاش، مفهوم الأمة، ويستكشف إمكانية تقديم نموذج جديد له في سياق العالم الحديث. وسيبحث المؤتمر أيضاً بعض التحديات المهمة التي تواجه المجتمعات الإسلامية، بما فيها مسألة الشرعية السياسية في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، ودور الفقه الإسلامي "الشريعة" في المجتمعات الإسلامية الحديثة، وتحديات الطائفية والقومية والعلمانية والحكم المدني، والتحديات الاقتصادية الاجتماعية، والتي تشمل تمكين المرأة، والفقر، والبطالة، والإنتاج، والتنمية، والعولمة، والعلاقات العصرية المثيرة للجدل بين العالم الإسلامي والقوى العالمية في عالمٍ مليء بالهيمنة، والحروب، والإرهاب، والعنصرية، والإسلاموفوبيا.

ويُعد الهدف من هذا المؤتمر هو استقطاب أبرز العلماء والأكاديميين في مجالاتهم لمناقشة هذه الموضوعات المهمة. وسيشارك العلماء في مناقشاتٍ عميقة بشأن إعادة النظر في موضوعاتٍ مهمة تواجه المجتمعات الإسلامية، ويستكشفون بعض التحديات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية الاجتماعية الرئيسية، فضلاً عن المشاكل الداخلية والتهديدات الخارجية التي تواجه العالم الإسلامي، والحلول المناسبة لها. وستحلل النقاشات هذه المشكلات الصعبة، وستحاول تقديم حلول جديدة وعملية.

من ناحيةٍ أخرى، ستُعقَد ندوة عامة يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول بعنوان "الأمة الإسلامية في العالم الحالي" بمركز يحيى كمال بياتلي للمؤتمرات في حي كوجك جكمجة بإسطنبول. يحضر هذه الندوة علماء بارزون مثل الدكتور طارق رمضان الأستاذ بجامعة أكسفورد، والدكتور جون إسبوزيتو الأستاذ بجامعة جورج تاون، وإبراهيم كالين المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية التركية.

وفي ظل عالمٍ مُعولَم يتغير بسرعة، آمل أن يسهم هذا المركز في إرساء فهمٍ أفضل للتغيرات الجذرية التي تحدث في العالم الإسلامي، ويدرس العلاقات داخل وبين دول المنطقة والقوى العالمية. عشتُ في الولايات المتحدة عقوداً أُراقِب من كثب سياساتٍ مهمة، وكارثية في غالب الوقت، تُدمر وتؤثر في المنطقة. ولكن أشعر الآن بامتيازات العيش في تركيا، والتي استعادت موقعها، من نواحٍ عدة، كمركز وقائد التغيير المحتمل في العالم الإسلامي. وبمحاولة مثل هذه، آمل أن يسهم هذا المركز في فهم وتحليل التغيرات الجذرية التي تحدث في المجتمعات الإسلامية، ويقدم حلولاً عملية للتحديات الصعبة التي تواجه عالمنا المُعولم.

– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة Daily Sabah التركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد