إن كنتَ في موضع مسؤولية (ما)، وأخفقت في إدارة ملف (ما)، له أهمية كبرى؛ كأن تكون وزير خارجية دولة (ما)، تعتمد على نهر (ما)، يمثل شريان الحياة لشعب (ما)، وقامت دولة أخرى (ما)، ببناء سد عند منابع هذا النهر، وأنت كوزير – ومن ورائك الحكومة ورئيس الوزراء ورئيس الدولة – أخفقت في إدارة الملف، وتم الشروع في البناء وأوشك السد على الاكتمال، ووجدت الفشل يحاصرك من كل اتجاه، والهزيمة تعدو نحوك بخطى ثابتة؛ فلا تقلق ولا تدع اليأس والإحباط يتسللان إلى نفسك.
فإن كنتَ فشلت في هذه المعركة الكبرى- وقد فشلت بالفعل -فما عليك إلاأن تصنعَ لنفسك معركة صغرى، على مقدارك، تحقق من خلالها نصرا مبينا، يعيد إليك ثقتك في ذاتك، ويصرف أنظار الآخرين عنك، وعما ألمّ بكمن هزيمة وفشل.
كأن تفتعل معركة – مثلا- مع ميكروفون فضائية (ما)، وتقوم بإسقاطه أرضا كلما رأيته في مؤتمر أو واجهته في اجتماع، واجعل منها معركتك المفضلة، التي تحقق فيها الانتصار تلو الآخر، ولا تشغل بالك بموضوع النهر والسد والجفاف.
على غرار هذه المعركة كان أحد ضباط الشرطة في مواجهة شرسة قبل ساعات للتصدي لثلاثة كيلوغرامات من المانجو، نعم ثلاثة كيلوغرامات من المانجو، وفي رواية أخرى اثنان فقط.
بدأت المعركة عندما وقفت فتاة لا يتعدى عمرها السابعة عشر عاما أمام ضابط الجوازات بمطار القاهرة؛ ليسألها عن التصريح الأمني الخاص بسفرها إلى تركيا، فأخبرته الصغيرة أنها لا تحتاج إلى تصريح أمني؛ إذ إن لديها إقامة في تركيا؛ فسألها وقد ارتفع صوته: وبتعملي إيه في تركيا إن شاء الله؟
أجابته الفتاة : دراسة.
فقال لها: وما لها الدراسة في مصر؟ ما بتدرسيش في مصر ليه؟ مش عجباك مصر ليه؟
قالت له: عجباني طبعا يا فندم دي بلدي، وكنت بادرس في مصر، لكن بابا سافر تركيا ونقل شغله هناك، والأسرة كلها سافرت معه.
فقال لها: وأبوك بيشتغل ايه في تركيا؟
قالت الفتاة: بابا تاجر موبيليا.
فقال لها: وهي مصر ما فيهاش شغل؟ ما فيهاش تجارة؟ ما فيهاش موبيليا؟ ما يرجع ويشتغل في مصر، مش عاجباكم مصر ليه؟
فرت عليه الفتاة: يا فندم مصر فيها تجارة وصناعة وزراعة وتعليم وكل حاجة حلوة، بس ظروف بابا وشغله في بلد تاني، عادي يعني، زي مصريين كتير شغالين في دول كتير بره.
أعاد الضابط ترديد كلام الفتاة بسخرية وهو يتفحص جواز سفرها وأمتعتها، ونظر لحقائبها وسألها: إيه الشنط اللي معاك دي؟
فأجابته: دي شنطة هدومي، ودي شنطة فيها شوية مانجة وفاكهة وأكل.
هنا انتفض الضابط كأنه عثر على ممنوعات مع أحد كبار المهربين، وصاح في وجه الفتاة: مانجة وأكل مصري!! اركني لي على جنب.
سألته الفتاة باستغراب: هو فيه ايه يا فندم؟
قال لها الضابط: "شوفي يا آنسة .. يا تاخدي شنطة هدومك وتسيبي شنطة المانجة، يا تخدي شنطة المانجة وتسيبي شنطة هدومك".
ردت الفتاة باستغراب: "مش فاهمة حضرتك تقصد إيه، الشنطتين بتوعي وأنا ما تجاوزتش الوزن المسموح بيه".
فرد قائلا: الموضوع مش في الوزن.. الموضوع باختصار.. مش انتم سافرتم وبتتعلموا وبتشتغلوا بره مصر، لأ وفين؟ في تركيا! مش لاقيين إلا تركيا! يبقى ليه عايزين تخدوا معاكم أكل من مصر؟ عايزين ليه تاكلوا المانجة المصري؟ اتفضلي يا آنسة لو عايزة تسافري والطيارة ماتروحش عليكي اختاري لك شنطة من الاتنين.. هدومك أو مانجة مصر.
وهكذا أجبر الضابط الفتاة على الخروج من مصر بحقيبة ملابسها فقط، واستطاع أن ينقذ ثلاثة كيلوغرامات من المانجو المصرية من يد أسرة مصرية تقيم على الأراضي التركية.
كأني بهذا الضابط عندما يعود إلى بيته في ذلك اليوم ويستقبله أولاده فرحين بأبيهم الذي عاد من عمل يطارد فيه الأشرار ويلقى القبض على المجرمين، كأني به وهو يجالسهم ويحدثهم عن مغامرته في عمله في ذلك اليوم، ماذا سيقول لهم؟ هل سيحكي لهم عن بطولات أبيهم في ضبط وتعقب ثلاثة كيلوغرامات من المانجو؟!
طبعا سيادتك قاعد تقرأ المقال على الإنترنت وتضحك وتهرج مع أصحابك على ولا تعلم أن هناك ضباطا في المطارات وعلى الحدود، طالعة عينيهم في تعقب المانجه العويس ومطاردة التين البرشومي، ولا أحد يعلم بهم ولا ببطولاتهم.
– تم نشر هذه التدونة في موقع الجزيرة مباشر
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.