رسالة عاكف في يوم مولده

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/26 الساعة 03:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/26 الساعة 03:28 بتوقيت غرينتش

وُلد عاكف مرتَين، وُلد في 12 يوليو/تموز 1928 ووُلد ثانية في 22 سبتمبر/أيلول 2017، فكيف نجرؤ على أن نقول على مثله ميتاً؟ أوليس الذين يموتون في سبيل الله أحياء "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"، أم أننا نقرأ بلا فهم ونحفظ دونما تطبيق؟

وُلد عاكف حين ترك ظلم السجان وانتقل لرحمة الرحمن، وُلد عاكف حين ترك ضيق العنابر لنعيم المقابر، وُلد عاكف حين ترك قاضي الأرض ليشتكيه لقاضي السماء، وُلد عاكف حين رفض الإفراج الصحي من نظام الخسيسي؛ لأنه لم يقبل ذلك شاباً، فكيف يقبله شيخاً؟! كيف يأخذ بالرخصة وهو من أصحاب العزائم؟!

تسعون عاماً عاشها بين الميلادين، تسعون عاماً من الجهاد والثبات والتضحية والدعوة، فهل يستطيع قاعد أن يعلن وفاة مجاهد؟ وهل يستطيع نظام فاشي أن يمسح تاريخ البطل النضالي؟!

عاكف لم يمت، وكيف يموت إنسان عاش 90 عاماً في طريق الله؟ كيف يموت من قضى شبابه محارباً ومقاوماً للمحتل الإنكليزي بمصر والصهيوني بفلسطين؟ كيف يموت من قضى في سجون الاحتلال العسكري أكثر من 27 عاماً؟

الموت شر لا بد منه لكل عاصٍ ومقصر في طاعة الله، وخير لمن استعد للقاء الله، ونعمة لمن مات في سبيل الله، وجائزة لمن ضحَّى طوال حياته لله، فالموت يليق بأصحابه ويختار لهم مِيتة تناسب حياتهم، فكما أنه طبيعي أن يموت الكثيرون على أسرَّة المرض وهم في الستين أو السبعين، طبيعي أيضاً أن يموت البطل الشهيد عاكف في سجون الظالمين وهو في سن التسعين.

بطلاً حييت برغم ألوان الأذى ** أفلا تموت اليوم كالأبطال

قد عشت تدعو للنضال فحان أن يحيا بموتك ألف ألف نضال.

نحسبه من المؤمنين الرجال الذين "صدقوا ما عاهدوا الله عليه"، ولا بد أن نستعد لننال شرف "مَن ينتظر "ولنحذر أن نبدل بخلافاتنا وجدالنا تبديلاً "وما بدَّلوا تبديلاً"، ومن هؤلاء الرجال في عصرنا إن لم يكن منهم عاكف؟! ومن سينتظر إن لم نكن نحن؟! وصدق شوقي حين قال:
وَمَن يَسقى وَيَشرَبُ بِالمَنايا ** إِذا الأَحرارُ لَم يُسقوا وَيَسقوا
وَلا يَبني المَمالِكَ كَالضَحايا ** وَلا يُدني الحُقوقَ وَلا يُحِقُّ
فَفي القَتلى لِأَجيالٍ حَياةٌ ** وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ

لقد نعاك أحرار العالم يا شهيد، وبكاك محبو الدعوة ومقدرو النضال، وكتب فيك الشعراء وأنَّى لقصيدة أن تلبس بطلاً مثلك ثوباً يليق به:
يا عاكف الأسطورة الحر الذي ** حاكيت في شرف الرجولة "سيدا"
رفرف إلى العلياء حرا شامخاً ** واترك زنانين العبيد.. مؤبداً
واعرج بروحك للخلود مردداً ** اليوم أمضى للجنان مخلدا
إن شاء ربي أن أعيش بقربه ** فلطالما عشت الحياة مشردا

عاكف البطل لمن لا يعرفه عمره من عمر جماعته فلقد وُلد في 1928 وانضم لها وهو ابن الثانية عشرة عاماً، وحصل على المعهد العالي للتربية الرياضية في 1950، وشارك في الإعداد للجهاد بفلسطين وجاهد ضد الصهاينة، وقاد معسكرات الجامعة لتدريب الشباب والمتطوعين ثم سلَّم المعسكرات التي ترأسها للواء كمال الدين حسين -المسؤول عن الحرس الوطني آنذاك- وتولَّى إدارة قسم الطلاب حتى اعتقل في 1954 ومكث في سجون العسكر عشرين عاماً حتى خرج في عهد السادات، وترأس مركزاً إسلامياً بألمانيا أكمل فيه دعوته، وساهم في تنظيم عدد من المعسكرات الشبابية والدعوية في مصر والسعودية وتركيا وماليزيا وبنغلاديش والأردن… واعتقل في أيام مبارك لمدة ثلاث سنوات، وكانت جماعته أيام توليه مكتب الإرشاد في 2004 محور اهتمام الكثيرين للنقلة النوعية التي أحدثها في أسلوب الجماعة وانفتاحها على الأحزاب وفي آلية مواجهة النظام، وفضل أن يكون مرشداً سابقاً فقاد الانتخابات بحب وإيثار، وفي عصر السيسي الذي لم يسلم منه الهواء ولا الماء اعتقل الرجل بعد الانقلاب وهو يغلق دفتر حياته وجهاده ليفتح المجال لكل محبيه للقراءة في نضاله وجهاده علهم يتعلمون.

لا تحزنوا على الشهيد، فالشهداء يرثون لحالنا، ولا تبكوا لأنكم لم تحضروا جنازته، فالملائكة كفتكم الحضور، حلّت محل إخوانه المطاردين ورفاقه المعتقلين، وكأني أسمع صوت الشهيد ينادي في كل الباكين والمعزين:
أنا إن حُرمت وداعكم لجنازتي ** فملائك الرحمن لم يدعوني

إن لم يصل علي في الأرض امرؤ ** حسبي صلاتهمو بعليين
لا تـــحزنوا إني لربــــي ذاهـــبٌ ** أحيا حياة الحر لا المسجونِ

وكأني أسمع صوته الجهوري وحماسه الثوري قائلاً لرفاق دعوته وللأجيال التي تركها باكيةً عليه: "لا تحزنوا، اجعلوا من دموع الحزن أنهار أمل وبحار عمل، اسقوا الوطن الظامئ للحرية، وداووا الأمة الجريحة، لا تيأسوا فليس اليأس من أخلاق الثائرين، اتحدوا لتخرجوا إخوانكم المسجونين، فإن كنت وُلدت بوفاتي فكثيرون سيموتون في سجون الظالمين، ضمدوا جراح الأُخوةِ وكونوا رحماء بينكم أشداء على عدوكم، ولا تنسونا في دعائكم في لحظات النصر والتمكين".

لا يدري الشهيد أنه وإن لم يصلّ عليه أحبته بمصر صلى عليه الملايين في أرجاء العالم، منعوا الصلاة عليه بمصر فصُلي عليه في كل مصر.

فاجعلوا من موت الشهيد -جسداً- حياة لروح دعوتكم، ووقوداً لمشاعل فكرتكم، ونبراساً لهدي فكرتكم، وماء لري صحاري الوطن، وبلسماً لأمتكم الجريحة، اجعلوا سيرته وصبره وثباته نصب أعينكم، وموتوا كما مات الأبطال، وليختر كل منكم حياته الأبدية بنفسه، وليختر موتته بنفسه؛ فإن عشت في سبيل الله ستموت في سبيله، وإن عشت لقضية ستموت مدافعاً عنها أو منتصراً بها، وإن عشت مهموماً بدعوتك ستموت مكرماً.

هنيئاً لك الشهادة يا مَن عشت حياة الشهداء، أنعِم بروح وريحان، أنعم بصحبة الشهداء في أعلى الجنان، وإلى لقاء تحت ظل عدالة قدسية الأحكام والميزان.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد