قد يَظُنُّ قارئُ العُنوان أن الكلامَ يدور عن معركة عسكرية لكنَّ الأمرَ مختلفٌ تمامًا.
الذي أقصده هو وصفٌ تقريبي لما حَدَثَ معي عندما دَخَلْتُ اختصاصًا لم أكن أرغب به قَطُّ، بل كنتُ أُكِنُّ له العِداءَ بشكل تلقائي، فقد كنتُ منذ أيام الثانوية أنالُ أقلَّ الدرجات في علوم الأحياء؛ لأعوض الفرق في الرياضيات والكيمياء والفيزياء واللغة العربية.
لم أَكُنْ حينَها أعرفُ سببَ هذه الدرجات المتدنية نسبيًّا مقارنةً مع أخواتها، كنت أظن أن الأستاذ هو المشكلة، وبتغير الزمان والمكان فسيتغير هذا الوضع، وعلى الرَّغم من كل هذا فقد "تم إقناعي" أنَّ أفضلَ اختصاصٍ لي هو الطب البشري الذي يكسِبُ صاحبُه مكانةً اجتماعية وراحة مادية بمجرد تخرجه.
تمت عملية التسجيل في الجامعة بنجاح، لم أشعر يومها بشيء من السعادة قط، وكأن الأمر لا يعنيني، بل زادني عبئًا ومسؤولية أمام جميعِ مَن وَضَعُوا آمالهم في أن الطالب الذي أخذ المرتبة الأولى بين أقرانه في صفِّه سيكون حتمًا من المتفوقين في الكلية، وكانت الكلية في العاصمة بيروت تبعد عن منزلنا حوالي 3 ساعات بالسيارة، وهذا ما ألزمني استئجارَ غرفة في السكن الجامعي، كانت الحياة حينها عبارة عن 4 محطات: مقعد الكلية وكرسي المطبخ الذي أتناول فيه الطعام على عجالة والسرير الذي أقضي به باقي أوقاتي للدراسة والنوم والدردشة مع رفيقي في الغرفة، وكان من طائفة أخرى بالمناسبة، إضافةً إلى كرسي الحافلة الذي يقلنا أسبوعيًّا من بيروت وإليها في نهاية الأسبوع.
كان ينقصني حينها لباس برتقالي؛ لأشعر أني من سجناء غوانتانامو؛ فالتعذيب هناك نفسي أكثر مما هو جسدي.
ولا أنسى معركة الكرامة التي كنت أخوضها صباحًا عندما يفتح باب قاعة المحاضرات لنهجم بالمئات (صدقًا بالمئات) إلى 6 قاعات تتسع كل واحدة منها لأكثر من 300 شخص، كنتُ نحيلًا ذلك الحين وعندي لياقة بدنية تساعدني على تخطي الحواجز والقفز فوق المدرج وطاولاتها لأصل إلى منتصف المدرج السادس. كان الموقع استراتيجيًّا؛ فهو ليس أمام الدكتور مباشرة، وليس بعيدًا أيضًا، وفيه إمكانية المناورة للدردشة بصوت منخفض أو النوم قليلًا على الطاولة، أما المقاعد الخلفية فقد أعلَنَتْ استقلالها ضمن حكم ذاتي منفصل عن سيادة الدكتور؛ فلا هم يسمعونه، ولا هو يكاد يراهم.
بعد فترة قمتُ باستبدال معركة الكرامة بخطة الإنزال خلف خطوط العدو، كنت استيقظ الساعة 6 صباحًا، أركب الدراجة الهوائية لأصل بسرعة إلى القاعة فأضع 6 كتب جنبًا إلى جنبٍ؛ لأحجز المقاعد لي ولأصدقائي ثم أعود إلى السكن الجامعي لأستكمل باقي التحضيرات وأتناول فطوري.
استمر الوضع على هذه الحال حتى شارفَتِ السنةُ الدراسية على الانتهاء، وعلى الرَّغم من أن الدرجات كانت جيدةً نسبيًّا فإني لم أكن سعيدًا حينها بالمرة؛ فالمعدلات العالية كانت تأتي من مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء بدرجات شبه كاملة، في حين أن المواد الطبية والأحياء كانت تجاري أخواتها في السنوات السابقة.
حينها قررتُ أن أغيِّرَ الوضعَ القائم بِرُمَّتِه والذهاب بعيدًا إلى مكان آخر أفضل، وكانت الخيارات في النصف الثاني من العام الدراسي محدودة، فدرجاتي العالية أهلتني لأحصل على منحة كاملة في الاختصاص الذي أريد لكن الوقت متأخر جدًّا، لم يكن أمامي إلا خيار تركيا واليونان للدراسة فيهما؛ فاخترت تركيا وبدأت إجراءات التسجيل للمنحة آن ذاك.
كررتُ الخطأ نفسَه حين أتيحت لي الفرصة من جديد لأختار الجامعة والاختصاص الذي أريد فما تراجعتُ ولا بدَّلْتُ، بل اعتبرت أن تغيير الاختصاص من علامات الفشل وهذا ما لا أرضاه أبدًا، وهذا ما أعتبره الخطأ الأكبر في ظني، عوَّلت على تغيير المناهج والأماكن في جعلي أُحِبُّ هذا الاختصاص.
كانت إجراءات التسجيل متعبةً حقًّا؛ حيث لم يكن الإنترنت من ضمن الخيارات المتاحة، بل كان عليَّ أن أتمم كل الأوراق بنفسي من الوزارات والسفارة وغيرها، وفي الوقت نفسه استمررْتُ في الدراسة بشكل طبيعي فالتفريط فيها ليس من المنطق إطلاقًا، وانتهت السنة الدراسية، وانتقلْتُ إلى السنة الثانية وبدأ الصيف وما زِلْتُ أنتظر جواب السفارة التركية في بيروت، بعد فترة اتصلوا بي وكانت الاستعدادات للغربة، وهكذا بدأَتْ مرحلةٌ جديدةٌ من حياتي.
دعونا نتحدث عن هذه المرحلة في المدونة القادمة التي سأتكلم بها عن 3 سنوات أمضيتها في كلية الطب في إسطنبول.
إلى ذلك الحين.. إلى اللقاء
– تم نشر هذه التدوينة في موقع زدني
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.