في بث مباشر لبرنامج تلفزيوني، كان المتحدث شخصاً بديناً، أصلعَ، حليق اللحية، يتناثر لعابه أثناء حديثه حتى نتوهم أن رذاذه سيصيبنا فنتَّقِيه، يرتدي بدلة حمراء قانٍ لونُها، ياقة قميصه مفتوحة تكشف صدره، حركاته مبالغ فيها لا يكاد يستقر على هيئة، وكأن بدانته من نفخ ريحٍ لا من تراكم شحم!
بدا لي من حديثه مخموراً، لكن رفيقي الجالس بجانبي على أريكة عتيقة مهترئة، يحسن به الظن، يقول إن طباع الناس مختلفة، وربما هذا الذي نراه، هو من طبع الرجل في الحديث والإشارة، لا من فعل المشروب في الجمجمة!
قلت: ربما!
يتحدث الرجل عن حرب ما، يتملكه الحماس حيناً، ثم يبدو متألماً حيناً آخر، ثم يضحك ملء شدقيه حتى يهتز بطنه، وكأنه عدة أشخاص متشاكسين في جثة واحدة! ثم يمزح ويداعب المذيع الذي استضافه، حسناً.. يبدو مذيعاً في عينيّ، ومذيعة في عينيْ رفيقي، شعرها شعر أنثى، وثيابها ثياب أنثى وزينة تجميلها أيضاً، لكن قسَمَات وجهها واستطالته، وحدّة ملامحها، وخشونة صوتها تقول إنها رجل.. ذكر.. لا أدري.. شيء من هذا القبيل!
يقول المتحدث البدين وهو ينظر إلى الكاميرا أكثر من نظره إلى المذيع(ة)، إن حديثه عن الحرب ليس ارتجالاً وتطفلاً، بل حديث صاحب شأن، فهو خريج مدرسة عسكرية مرموقة، وصاحب رتبة عليا بالجيش، ومن باب الإطراء تقول له الأخرى (أو الآخر): إن المشاهدين الكرام -أقول لرفيقي: يقصدنا، يجيبني: تقصدنا- المهم، تقول: إن المشاهدين الكرام يجب أن يعرفوا أن الضيف ليس عسكرياً فحسب، فهو أيضا فنان بل وخريج معهد فنون.. يضحك بفخر، ويقول: نعم، نعم، وللدقة أنا خريج قسم الرقص الشرقي! ويواصل: الإنسان يجب أن يكون متعدد المواهب، فنحن في عصر جديد!
أتعجّب! أقول لرفيقي مندهشاً: ما هذا؟ هل صار أهل الجندية والحرب محترفي رقص؟ وشرقي؟ هز وسط؟
يصمت ولا يرد، كأني لم أقل شيئاً!
أقول: ماذا؟ هل تبحث عن عذر لهذه أيضاً؟ هيّا أحسن الظن وأخبرني ما العلاقة بين بندقية المقاتل وخصر فيفي وزيزي ولولو؟
ينظر إليَّ بامتعاض: يا رجل! هذا شخص لديه هواية، أيّاً كانت، لا يجب أن تختلط عليك الأمور فتربط بين حياته الشخصية وحياته العامة أو العسكرية، ثم أنت لست أهلاً للحكم عليه، وإن فعلت فليس لك من الحكم إلا ما يؤثر عليك ويمسُّك، لا ما يخصه ويمسّه وحده!
قلت: لا تحنق، أنا أقول فقط إن الخصر إذا تعرى، صارت العورة غنيمة، والغنيمة عرضة أكيدة للكشف والوقيعة، والوقيعة فضيحة لا تمس المفعول به وحده، بل وقومه حين يكون أحد رؤوسهم، وتزداد الشناعة والقبح إذا استحسنوا فعله! والخصر يا رفيقي إذا اهتز لا يثبت عليه سلاح، بل يغدو نطاقاً مستباحاً يعيث فيه الغير كما يشاء، فإذا كان هذا حال مَن تخاله الحامي، فكيف يكون حال المحميّ؟
يصرخ في وجهي: افصل.. افصل، افصل هذا عن ذاك!
رفيقي من هؤلاء الذين يحبون فصل الأشياء عن بعضها، الفكر عن الفعل، الروح عن الجسد، الدين عن الدنيا، الفعل عن رد الفعل، وحتى اللباس عن الجسد أحياناً!.. وقبل أن ننهي سلسلة الانفصال والانفصام، يفاجئنا المتحدث على الشاشة بقوله: أنا لا أفصل حياتي كعسكري، عن حبي وممارستي للرقص، -وبعينين لامعتين من الحماس أو ربما من الدلال- يواصل بقوله: فالحرب يا سيدتي في حقيقتها رقصة!
قلت موجهاً الكلام لرفيقي: هاه! أخوك لا يفصل، أخوك المحروس سيحمي البلاد والعباد بهزة الوسط العنيفة!
يصيح: مجاز.. مجاز! ألا تفهم معنى المجاز، أم كل شيء عندك بالحرف والنص؟
قلت: نعم!.. هو مجاز فعلاً.. صار كل شيء مجازاً، فتجاوز كل شيء حدّه وقدره وحقيقته، واختفى كل واقع خلف هذا الضباب الكثيف، فلا ندري ما السماء من الأرض، ولا الخير من الشر، ولا الحق من الباطل، ولا الذكر من الأنثى، ولا حاميها من حراميها، والآن هذه المتاهة المظلمة هي ما نُبَشَّر بكونه طريقنا المستقيم الجديد!
قال رفيقي بصوت منهك: أنغير القناة فترتاح وأرتاح؟
وقبل أن أجيب ضغط على الزر بعنف فغيَّر القناة، فإذا بصاحبنا العسكري الراقص على الشاشة من جديد، ببدلة خضراء هذه المرة، وبصدر مفتوح كالعادة، يقلب خرزات مسبحة بين أصابعه، ويجيب على تساؤلات الناس في برنامج للإفتاء في مسائل الدين!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.