الانتقاد بين التجريح والموضوعية

وهذا ما يجعلني أتساءل: ما معيارُ الحكم على تفاهةِ المقال من جديّته؟ ومَن يحقُّ له تقييمُ أيِّ مقالٍ كان؟ وهل للقارئِ العاديّ والمتصفّح "الفيسبوكيّ" رأيٌ في ذلك؟ أسئلةٌ كهذه تُطرح في وقتٍ أصبحَ فيهِ الجميعُ يرتدي عباءةَ النّاقد والفيلسوف، معتقداً أنَّ في الانتقادِ العشوائيّ المفتقرِ للحجّة والموضوعية جرأة وصلابة، وأنَّ لهُ كلَّ الحق في الاعتراض، طالما أنَّ الطرفَ المُنتقَد شخصيةٌ عامة اختارتْ الخروجَ علناً بصورتها الحقيقية على مواقعِ التواصل الاجتماعيّ.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/23 الساعة 03:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/23 الساعة 03:08 بتوقيت غرينتش

ذاتَ يوم قالَ لنا دكتورنا في الجامعة جملةً بقيتْ راسخةً ومحفورةً في رأسي، أتذكرها كلّما وُضِعتُ في موقفٍ يجعلني أستعيدُها فيه.

قال لنا: "في أيِّ حَدَثٍ تمرّونَ به في حياتكم، اعبروا إلى ضفة الآخر".

سألهُ أحدهم حينها: ما المقصودُ بضفة الآخر؟

فأجاب: أنْ تضعَ نفسكَ في مكانِه، فإذا وجدتَ أنَّ تصرفكَ أو كلماتك التي تخرُجَ منكَ لائقة أو مُسيئة، عندها احكُم بنفسِك واخترْ طريقتَك التي تجدُها مناسبةً مع الموقف.

لو أسقطْنا هذا التعبيرَ على واقعنا، واعتمدناهُ مِقياساً في تعاملاتنا الإنسانية مع بعضنا البعض، ربّما لارتقينا بمجتمعنا عبرَ احترامنا للاختلافِ والتنّوع، يكفي أنْ تطلّع كلّ يوم على تعليقاتِ قرّاء المقالات حتى تتمكن من أخذِ لمحةٍ كافيةٍ عن شخصيةِ كلّ متابعٍ وميولِهِ وأهدافه.

وهذا ما يجعلني أتساءل: ما معيارُ الحكم على تفاهةِ المقال من جديّته؟ ومَن يحقُّ له تقييمُ أيِّ مقالٍ كان؟ وهل للقارئِ العاديّ والمتصفّح "الفيسبوكيّ" رأيٌ في ذلك؟ أسئلةٌ كهذه تُطرح في وقتٍ أصبحَ فيهِ الجميعُ يرتدي عباءةَ النّاقد والفيلسوف، معتقداً أنَّ في الانتقادِ العشوائيّ المفتقرِ للحجّة والموضوعية جرأة وصلابة، وأنَّ لهُ كلَّ الحق في الاعتراض، طالما أنَّ الطرفَ المُنتقَد شخصيةٌ عامة اختارتْ الخروجَ علناً بصورتها الحقيقية على مواقعِ التواصل الاجتماعيّ.

بعضُ هؤلاءِ المنتقدين يلجأُ إلى السّب والشّتم والقذف والتعرّض لأعراضِ النّاس دونَ دليل، وهو سبيلُ الضعفاء لا محالة، سبيلُ مَن لا حُجة لديه، أمّا بعضُهم الآخر فانتقادُه لاذعٌ مع إيحاءاتٍ مليئةٍ بالسّخرية، تُفهم من سياقِ الكلام دونَ حاجةٍ للشّرح.

أمّا الصنفُ الثالث فيسعى من وراءِ انتقادهِ لك إلى تصفيةِ حساباتٍ قديمةٍ، فتراهُ عندَ كلّ منشورٍ أو مقال يبحثُ عن الفاصلةِ من النقطة، وعن موضِع الشّدة والهمزة، وإذا بحثتَ جيّداً عن مكْمَن كلّ هذا التعقيد، فستجدُ سببَهُ يعود إلى كونكَ رفضتَ إضافتَه إلى لائحةِ أصدقائك، أو لأنّك تكتبُ جيداً وهو لم تسنَح لهُ الفرصةُ ليكتبَ بعد.

ولا أريدُ أن أتحدثَ عن ذلكَ النوع الذي يؤمنُ بمبدأ "أنا أعترضُ إذاً أنا موجود"، فهؤلاء كُثُر، والحديثُ عنهم يطول.

كما لا يخفى على أحد أنَّ الانتقاد في وقتنا هذا تطوّر ليصبحَ بعيداً عن المنهجيّة وأقربَ للهمجيّة، مليئاً بالإهاناتِ والسّباب تحت مسمّى لكلّ منّا الحق في النقد، متناسين أنَّ ثمَّةَ فرقاً كبيراً بين النقد والانتقاد، فالنّقد لأهلِ الاختصاص، يكونُ مبنيّاً على حُجج وبراهين بطرق إيجابية هدفُها التّصويب والتّصحيح، وقلّةٌ مَن يُمارسونه بضميرٍ وحياديّة، أمّا الانتقادُ فهو عادةً ما يكونُ محاولةً لتصيُّد أخطاءِ الغيرِ لا أكثر.

نحنُ لا نريدُ نقداً مليئاً بالكرهِ والحقدِ خالياً من الموضوعية، ولا نقداً خاضعاً للمشاعر والعواطف قائماً على مُواربة الكاتب ومُجاملته والانحيازِ له، ممّا يمنعك حتّى من قولِ رأيك؛ لأنَّ صاحبَ القولِ صديقٌ أو تُكِنُّ لهُ من المشاعرِ والعواطف الكثير.

وإنْ كانَ هذا النوعُ موجوداً منذُ القِدم ولنا في قصة امرئ القيس وعلقمة الدليل؛ يُحكى أنَّهما احتكَمَا لأمّ جُندب زوجة امرئ القيس، كلُّ منهما يقول للآخر "أنا أشعرُ منك"، فطلبتْ أم جندب دليلاً على ذلك من شِعريهما؛ لتحكم في النهاية لعلقمةَ بالجودة والسّبق، معلّلةً ذلك أنّ فرسهُ أجودُ من فرس امرئ القيس، إلاَّ أنَّ هذا الحكم كان نابعاً من حبها لعلقمة، ما دفع بامرئ القيس ليطلقها ويتزوجها علقمة بعد ذلك.

نحنُ لا نريدُ نقداً يشبهُ ما ذكرتُ في المقال، نريدُ نقداً يرتقي بنا وبِمَن ننقدُه، نقداً قوامُهُ القراءةُ بتمعن، فإِنْ لم نفهمِ المعنى منَ القراءة الأولى نعيدها ثانيةً، نريدُ نقداً أساسُه الفكرةُ بالفكرة، والحجّة بالحجة، نقداً بعيداً عن الشَّخصنة والثأر، خالياً من السّلبية والتجريح، قريباً من الإيجابية والوضوح، فالانتقادُ العشوائيّ يولّد العداواتِ لا أكثر.

وبعضُ الكلمات تخرُج من أفواهِ أصحابها كالرصاص، لا يُلقونَ لها بالاً، فإذا بها تخترقُ أجسادَ وقلوبَ متلّقيها، "فَلكي تقول لي 1+1=2 لستَ في حاجةٍ لكيْ تصرخ، ولكنّك في حاجةٍ أن تصرخَ وتتشنّج إذا حاولتَ إقناعي أنّ 2+2=5".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد