لم تكن الأمور جيدة بعد 30-6 بالنسبة لنا كجنود علي الأقل، فلم تكن الإجازات الميدانية متاحة بسهولة، وجملة "وقف تحركات" كانت شائعة جداً وهي كابوس بالنسبة لأي جنود، فكل خططك وآمالك وطموحاتك في الإجازة تنهار فجأة دون مقدمات، لم تكن الحالة على مستوى الإجازات فقط، ولكن حالة التأهب الدائمة والترقب لكل شيء والشعور دائماً بالخطر المحدق بأي وحدة عسكرية سواء كان هذا الشعور حقيقياً أو خيالاً ولكنه يحوم حولك في كل وقت.
1
وقف القائد صباح اليوم الرابع من شهر يوليو يهنىء جميع أفراد الوحدة ابتهاجاً بعزل مرسي من منصبه وتولى المستشار عدلي منصور رئاسة البلاد بشكل مؤقت، كان مبتهجاً وكنت مترقباً لا أخفي عليك عزيزي القارئ أنني لم أكن حزيناً لعزل مرسي ولم أكن سعيداً ولكن كان قلبي دائم القلق والترقب، فنحن أمام انقلاب عسكري واضح ومكتمل الأركان، إلى أين سيأخذنا؟ وهل سيصمت الإخوان؟ وهل ستمدد حالات القلق إلى وقت لا محدود؟ مشاعري المتخبطة جعلت كل خلايا عقلي في تحفز مستمر للمتابعة ومعرفة الأخبار بدقة وهو أمر صعب جداً داخل القوات المسلحة، نظراً للرقابة الدائمة على تلفاز الكانتين -وهو الوسيلة الوحيدة المتاحة للتواصل- والذي لا يخلو من قنوات الرقص والأغاني الشعبية أو الفراعين آنذاك ومتابعات توفيق عكاشة وعكاشياته العجيبة.
لم يكن حالي هو حال أغلب الجنود بالتأكيد، فعمظم الجنود لا يلقون بالاً لهذا الكلام أصلاً، هم انعكاس لحالة عموم المصريين، لا يريدون إلا إنهاء مدة التجنيد وفقط، وبالطبع متأثرون برسائل الإعلام ورسائل الشئون المعنوية التي شحنت الجميع ضد مرسي وسيرة مرسي وكل من يذكر اسم مرسي.
2
شيء من الخوف
ماسيبرو ثم بين السرايات والجيزة، وتصاعد نبرة العنف، انتقل الخوف من الشك إلى الخوف الحقيقي، ليس خوفاً على نفسي، ولكن خوفاً على مصائرنا جميعاً وما ستؤول إليه الأمور، هل سنصل إلى فوضى عارمة تطيح بالأخضر واليابس؟ هل سيتحول الإخوان إلى حالة العنف الكاملة، هل سيحدث انقسام داخل الجيش المصري وهو سيناريو مرعب جداً لي كمواطن مصري أولاً وكجندي ثانياً.
بين كل هذة الأمور، كانت الأجواء داخل الجيش في تصاعد مستمر لدعم الخوف من الاستهداف مع الشحن ضد الإخوان، استخدمت وسائل كثيرة خطب الجمعة وطابور الهتاف الصباحي بقراءة الأوامر وغيرها وحالات التأهب التي تظهر فجأة دون مقدمات ثم تنتهي بسرعة دون مقدمات ثم تعود وهكذا، وكأنه تمثيل لحرب صغيرة.
3
الذخيرة والسلاح
أهم شيء النظافة والسلاح
تلك أشهر جمل ﻷي مجند، أهم شيء هو الحفاظ على سلاحك وذخيرتك وتنظيف الوحدة، أول بأول وهو كان شغلنا الشاغل قبل اشتعال الأحداث وبعدها ظل مهمة رئيسة ولكن بدرجة أقل، فأنت تقضي أوقات الخدمة ثم التنظيف والاشغال والمكاتب وغيرها لا شيء غير ذلك في حالة ممتدة من الملل. لكن بعد 30 -6 أصبحت خزنة الطلقات التي دائماً ما كانت فارغة، مملوءة عن آخرها وبدل الخزنة الواحدة تستلم 3 خزن.
أضف إلى معلوماتك أن معظم الجنود لم يكونوا يستلمون مع سلاح الخدمة إلا خزينة ذخيرة فارغة، واختلفت الأقوال لمعرفة سبب هذا الفعل الغريب، منها أن الجنود أحياناً مع الضغوط " بينتحروا " ومنها أن بعض الجنود يعبثون بالسلاح فتخرج طلقة تسحب أرواحهم بسهولة وهو الأقرب للمنطق بالنسبة لي، فبعد تطور الأمور وصل فاكس رسمي للوحدة بمراجعة تعليمات الأمان في استخدام السلاح لجميع أفراد الوحدة نظراً لتكرر حوادث الإصابة أو الموت بسبب خطأ في استخدام السلاح وهو ما شاهدته بنفسي من أحد الجنود الذي ضرب بالخطأ طلقة ولستر الله خرجت في الهواء.
4
فض رابعة
يوم لا يمّحي من ذاكرتي، مر كجبل يتفتت شيئاً فشئياً، وصل ضابط المكتب حوالي الساعة 10 صباحاً قائلاً "خلاص يا خضر بيفضوا رابعة أهو وهيخلصوا كل حاجة" كان فرحاً ومنتشياً وكأنه يوم سعده.
قضيت ساعات من القلق والترقب والصرخات المكتومة بعد معرفتي بأخبار موت أصدقاء وفقدان أصدقاء آخرين، وبالمناسبة أنا لم أكن أنتمي لجماعة الإخوان في هذا التوقيت ولكن لي أصدقاء كثر، وهي معلومة غير مفيدة على الإطلاق فتلك المذبحة تهز قلب أي إنسان حي.
شتائم طيلة النهار وشماتة لا محدودة، كنت أشعر أن الدماء تقطر من أيادي كل من حولي، وكأنني انتقلت إلى عالم آخر لا يعرف الرحمة، وأصعب المشاعر هي المشاعر المكتومة، والدموع الساخنة التي تغلي داخل محجر العين، فتتحول العيون إلى اللون الأحمر، كنت أهيم علي وجهي داخل الوحدة لا أوجه الحديث ﻷحد وأشعر أن قلبي سينفجر، ولا أستطع البوح، تمنيت في هذه اللحظات أن أسقط ميتاً حتى أرتاح، واهتديت بعد طول التعب أن أختفي عن الأنظار، فدخلت مسجد الوحدة وقضيت اليوم وليلته أصارع الأرق.
5
أضرب بدون أوامر القائد
مظاهرة قادمة من الحي السكني القريب من الوحدة، وحدتنا على الطريق، وبالتأكيد ستمر المظاهرة أمامها، ولحظي العاثر كنت في هذا التوقيت خدمة على أحد الأبراج، فجأة انتشار خفيف الحركة في أرجاء الوحدة وأعلى المباني ومر قائد الوحدة على كل الخدمات فرداً فرداً وهو يردد "أي حد يقرب من سور الوحدة اضرب في المليان من غير أوامر "وهو أمر لو تعلمون عظيم.
جلست في البرج وأنا في حالة توتر لا نهائية، ورائي مبنى عال يقف أعلاه 2 من ضباط الصف وعلى يساري برج آخر أعلاه زميلي الجندي م، بعد 10 دقائق تقريباً من الترقب، يصرخ ضابط الصف، قف في وضع استعداد يا عسكري وشد الزناد، وساعتها يزداد قلقي وتنقلب الدنيا رأساً على عقب داخل رأسي، يصرخ مرة أخرى علي زميلي الجندي في البرج الآخر -وكان جندياً مهملاً ويتعاطى الترمادول- إنت يا عسكري م يا ***قف عدل لأنزل اطلع **** ** قف في وضع استعداد وشد الزناد.
ماذا لو اقترب أحدهم من سور الوحدة؟ هل أطلق عليه الرصاص وأقف أمام الله محملاً بذنب قتل النفس؟ ولكن أنا مهتمي حماية الوحدة وفي الوقت ذاته لا أستطع قتل أحد وهم من بني جلدتي مصريون مثلي، وإذا تمت مهاجمة الوحدة كما يزعمون ماذا سنفعل؟ أنا لست مدرباً أصلاً على الضرب بالسلاح بشكل جيد، هل سيجن أحدهم ويحمل سلاحاً علينا! نحن الجنود! ليس لنا حيلة في قرارات مثل الانقلاب أو غيرها، وإذا اقترب أحدهم ليفرغ غضباً وفقط، يلقي حجرة أو يصرخ، لن يتنظره أحد وسيكون مصيره الموت المحقق، وإذا لم أطلق عليه الرصاص! هل سأتلقى أنا الرصاص من ورائي، استغفرت الله وكنت لا أخاف أن أموت ولكن أخاف أن أحمل بذنب رغم أنفي، جف حلقي وتحجر لساني وغمرني العرق من كل جانب.
استغفرت الله وتوكلت وقررت ألا أضرب إلا في الهواء وبفضل الله وكرمه لم يقترب أحد من السور ومرت المظاهرة بسلام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.