ما بال الدول الأخرى تتقدم ونحن في رقود لا نبرح مكاننا؟ وما بال الأمم الأخرى يتغير وعيها وتتبدل سياساتها وتتحسن أوضاعها ونحن أصنام لا نتحرك؟
هل تخلّفنا فطري؟ وُلد معنا؟ انتقل عبر جيناتنا جيلاً بعد جيل؟ أم هو مكتسب تعلمناه بالممارسة من منظومة متخلفة لا تفرخ سوى التخلف؟ لنلقِ نظرةً على المجتمع من حولنا ونرَ ما مدى صحة هذا الطرح.
من مظاهر التخلف نجد الفساد بشتى أنواعه، فالفساد حين يتغلغل إلى شرايين المجتمع وينخره من الداخل فيعشش في مفاصله ويسيطر على كل مظاهر الحياة فيه، يصبح مع مرور الوقت سلوكاً متفقاً عليه مسكوتاً عنه يدعمه مبدأ العرف، وبالتالي فهو يتوارث من جيل إلى جيل وينخرط ضمن نسق التربية ويذوب في تقاليد وعادات المجتمع، كما يذوب الملح في الماء، من هنا نرى أن الفساد الذي هو من أعمدة التخلف بقدر ما يعتبر صفة مكتسبة يخلفها ضعف البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لدول العالم الثالث، بقدر ما يتحول تحت ضغط هذه العوامل وغيرها إلى سلوك فطري طبيعي يصاحب الأجيال المتعاقبة في نشأتها وتطورها.
قد يقول قائل: إن العرب في أوروبا مثلاً متحضرون، بحكم بُعدهم عن الفساد ومظاهره، وقربهم من محيط تتبلور فيه كل آليات النزاهة والاستقلالية، وهذا ليس صحيحاً، فالعرب هناك يعيشون تحت وطأة الانبهار من حضارة الغرب إلى درجة الصدمة العنيفة، فتفعل فيهم تبعاتها ما تفعل، ويبدو للوهلة الأولى أنهم يسيرون وفق مسارها ويتأقلمون مع قوانينها، لكن في واقع الحال هم فقط يقلدون، تتحكم فيهم عقدة تقليد الغرب إلى درجة التبعية، وما تحضرهم هذا سوى ستار ظاهري وهن كبيت العنكبوت، لا يمت للتلقائية والعفوية بصلة.
وإلى جانب هذه الفئة، نجد فئة أخرى تزكي بما تأتيه من أفعال فطرية تخلفنا، فهي تولد في أوروبا، وأول نسمة هواء تستنشقها نسمة أوربية، ثم هي تنمو وتنشأ في أوروبا، تدرس في مدارسها، وتدخل جامعاتها وتتشبع بقيم ومبادئ المجتمع الأوروبي حتى النخاع، وحين تعود إلى أرض الآباء والأجداد، فهي لا تحترم قانون السير، وتنزعج من الوقوف أمام ممر الراجلين، وتتهور في قيادتها تهوراً غريباً، ولا تلتزم الصف في الأماكن العمومية ولا تعطي اعتباراً لأحد في الشارع، فلا يكون بالتالي تخلّف هذه الفئة إلا من وراء عامل فطري غريزي ولد معها ولازمها منذ الأيام الأولى لتشكل دعائم شخصيتها، بحيث يظل تخلفها مكبوتاً طيلة فترة مكوثها في الخارج إلى أن تحين أول فرصة تكشف من خلالها عن وجهها الأصلي وتنفث أدران الشخصية العربية الحقيقية، فيتبلور بذلك تخلف عابر للقارات والمحيطات، يصبح من الصعب استئصاله كون الأمر يفرض أن يسري هذا الاستئصال على أجيال وأجيال متعاقبة حتى يمحو بعض أثره، وهذا ليس بالأمر الهين.
فالتخلف سرطان ينتشر سمه فيصيب مجالات إنسانية حيوية بالشلل، وأينما وجد التخلف حل الخراب والفقر وتفشت البطالة والأمراض وما إلى ذلك من العاهات والكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي لا تعد ولا تحصى، قد تكون نظرتي تشاؤمية كوني أعتقد أن تخلفنا هذا لا دواء له، وأنه من الصعب جداً أن نتجاوزه إلى منعطف جديد نلتقي فيه مع مسار الدول المتقدمة التي تغلبت فيها المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة على أية عوائق أخرى، بل واتسعت الهوة حتى بيننا وبين قيمنا الإسلامية السمحة، فأصبحت تغرّد هي في وادٍ ونحن في وادٍ آخر تماماً، فتخلفنا وتعاليمنا الإسلامية لن يتوافقا، وليس من المعقول أن يوجد التخلف حيث يوجد الإسلام، ومن البديهي جداً أن الإسلام لن تحتضنه بيئة متخلفة.
إن اختلال التوازن بين شرائح المجتمع الواحد مع سيادة الشعور بالظلم والانكسار، يؤدي لا محالة إلى اضمحلال الحس بالانتماء، أو الغيرة على المنتمي إليه، فينصرف الفرد لخدمة مصالحه الخاصة باعتباره كائناً وحيداً يصارع من أجل البقاء، ولا يعير اهتماماً لا لمرجعيته الدينية ولا لمصلحة المجتمع ولا حتى الوطن بشكل عام، نتيجةً لذلك فإن كل الحدود تلغى وكل قبيح ومكروه يؤتى؛ لأن المجتمع يصبح فارغاً تماماً من أية قيم إنسانية قد تشكل الموجه الأساسي لسلوكيات الأفراد، وهذا ما ينتج اللبنات الأولى لنشوء التخلف.
ولعلنا أخطأنا في حق أنفسنا وتاريخنا والأجيال القادمة حين كانت انطلاقتنا بعد تحررنا من قيد الاستعمار -كما هو حال أغلب الدول العربية- انطلاقةً خاطئة، مرتبكة، بعيدة كل البعد عن مشروع نهضوي حقيقي بعيد المدى، وما علينا اليوم سوى أن نرضخ لواقعنا هذا وندفع ثمن أخطائنا البدائية الأولى، ونجني ثمراتها المرة مرارة العلقم بعد أن تجذر التخلف في مجتمعاتنا العربية وأصبح جزءاً لا يتجزأ منا.
لا يمكن أن نطلب من إنسان أن يصنع الحضارة وهو مفتقر لأبسط مقومات التحضر، يجب أولاً وقبل كل شيء الاستثمار في الإنسان، نركز على الأجيال الصاعدة، أما إنسان هذا العصر فقد غرق حتى أذنيه في بحر من اليأس يستحيل انتشاله منه، نربي فيه ملكة الإحساس بالآخر، وعبء المسؤولية الملقاة على عاتقه، يجب أن تصقل شخصيته بالطريقة التي تكون فيها تحركاته محاطة بسياج داخلي من مخافة الله وتأنيب الضمير، انظروا كيف تقدمت الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية المدمرة، كفرنسا وهولندا وإسبانيا وغيرهم في وقت قياسي بعد أن أعادت بناء قواعد المجتمع الأوربي بناءً جذرياً فطورت التعليم والصحة والتربية والوعي الإنساني، وأعطت للمواطن حقه وقيمته وأعادت له ثقته بنفسه، وبالتالي أوجدت جيلا يقدر أوروبا الأم، ولا يتوقف لحظةً واحدةً عن العطاء.
في المقابل، فإننا نحتاج والحالة هذه إن نحن أردنا الخروج من خندق التخلف والفشل، واستشراف المستقبل بعقلية جديدة يحدوها الأمل، نحتاج فعلاً إلى مشروع نهضة متكامل الأسس والركائز -من باب التفاؤل لا غير- إلى مشروع مصيري حاسم بما تحمله الكلمة من معنى، يتطلب منا تضحيات جسيمة وقرارات جريئة ورؤية مختلفة للأشياء نابعة من اقتناع داخلي محايد، وتحدّ فاصل مؤمن بقادم من الممكن لنا فيه أن نصنع التغيير السليم على غرار المجتمعات المتحضرة، وذلك وجوباً على وجه السرعة، فالقضية بالغة الخطورة، هي مسألة حياة أو موت قبل أن نتوارى عن الأنظار، وننقرض من العالم غارقين في مشاكلنا وأزماتنا القاتلة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.