الصراع الأبدي بين المطلق والنسبي‎

في بداية القرن العشرين استغل أنصار النظرية البراغماتية فكرة النسبية العلمية لبناء مذهبهم، جاعلين المنفعة (النجاح) مقياساً للحقيقة؛ لأن الفكرة الصائبة هي الفكرة التي تؤدي إلى النجاح في الحياة العملية، فأصبحت حقيقة وقيمة الشيء تكمن في كل ما هو نفعي عملي، وفي هذا الإطار يقول "ويليام جيمس": "يقوم الصدق بكل بساطة فيما هو مفيد لفكرنا والصائب فيما هو مفيد لسلوكنا"

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/22 الساعة 09:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/22 الساعة 09:02 بتوقيت غرينتش

الحقيقة حق… ولا شك أن الناس كلهم يحتكرون الحقيقة. هذا هو ما يفعله الناس باستمرار، وهذا حقّهم، وهو يقيناً من بديهيات الأمور، وهو أيضاً مسألة طبيعية وأمر منطقي. فهل هناك ما هو أكثر منطقية وعقلانية من أن يقف الإنسان خلف رأيه ومبدئه ويدافع عنهما حتى الرمق الأخير؟ ألم يقُل الشاعر:

قِف دون رأيك في الحياة مجاهداً ** إن الحياة عقيدة وجهاد

ولكن هذا لا يمنعك -عزيزي- أن تعرف أن للآخر حقيقة أخرى، مغايرة لحقيقتك، وربما تختلف عنها بالكلية، صاحب ذلك المذهب النسبي يدعم مذهبه بفهمهِ أن الحقيقة حدث تاريخي، لا يخرج عن كونه "حدثاً" يحدث في زمن معين ثم لا يكاد ينتهي فيصبح في خبر كان، وأن الحقائق العلمية حتى غير ثابتة في كل زمان، ويشهد على ذلك الواقع الآن؛ فكثير من الأبحاث العلمية أثبتت فشل حقائق كنا في الماضي القريب نحسبها كذلك حتى ذهب أحدهم -أصحاب نظرية نسبية الحقيقة- إلى أقوى أسلحة يمتلكها أصحاب نظرية "الحقيقة المطلقة" وهي حقيقة "الموت" وقالوا: "من أين يأتي لنا اليقين بأن الإنسان يموت، فلعلنا لم نصل إلى الحقيقة العلمية -إلى الآن- التي تجعلنا نمتلك من الطب ما يداوي أو يكتشف أن الإنسان يستطيع أن يقوم ويقاوم".

في رأيي، كان الوصول لذلك المفهوم هو بمثابة الاقتراب من الضربة القاضية -والتي لم ولن تكون لما أدين به من معتقد- لأصحاب نظرية "الحقيقة المطلقة"؛ لأنهم بذلك يضعونهم تحت الخوف من ظهور ما يُثبت علمياً في مقبل الأيام بأن الموت والانتهاء التام يمكن أن يُعالج إذا تقدم العلم.

في بداية القرن العشرين استغل أنصار النظرية البراغماتية فكرة النسبية العلمية لبناء مذهبهم، جاعلين المنفعة (النجاح) مقياساً للحقيقة؛ لأن الفكرة الصائبة هي الفكرة التي تؤدي إلى النجاح في الحياة العملية، فأصبحت حقيقة وقيمة الشيء تكمن في كل ما هو نفعي عملي، وفي هذا الإطار يقول "ويليام جيمس": "يقوم الصدق بكل بساطة فيما هو مفيد لفكرنا والصائب فيما هو مفيد لسلوكنا"، ويقول أيضاً: "إن الناس يعتقدون في القرون الماضية أن الأرض مسطحة ونحن نعتقد اليوم أنها مستديرة، إذن الحقيقة تغيّرت وأنت ربما تقتنع بهذا القول ويقنع به غيرك"، وبهذا فالحقيقة ليست غاية في ذاتها بل هي مجرد وسيلة لإشباع حاجيات أخرى.

نفس الرأي نجده كذلك عند "بيرس" القائل: "إن الحق يقاس بمعيار العمل المنتج، وليس بمنطق العقل المجرد.."، كما أن تاريخ الفكر البشري يؤكد أن العلم لكي يكون مطلقاً أي نهائياً لا بد من أن يكون تاماً، إلا أن هذا لن يتحقق، يقول "كلود برنار": "يجب أن نكون حقيقة مقتنعين بأننا نملك العلاقات الضرورية الموجودة بين الأشياء إلا بوجه تقريبي كثيراً أو قليلاً، وأن النظريات التي نمتلكها هي أبعد من تمثل حقائق ثابتة.."، إضافة إلى ذلك نجد أن الحقيقة العلمية التي تعتبر النموذج الأعلى لليقين لم تستطِع أن تعيش بمعزل عن الأخطاء؛ لهذا قال "غاستون باشلار": "إن تاريخ العلم هو تصحيح أخطاء العلم.."، وهذا ما جعله يتقيد بفكرة القطيعة، الشيء الذي جعل العلم حسب "باشلار" يتصف بالتقريبية، وعليه فالحقيقة نسبية، وليست مطلقة.
لكن ورغم ما قدمه أنصار النسبية من أدلة، إلا أنهم قد بالغوا كثيراً في ذلك؛ لأن المعارف السابقة ليست خاطئة كلها وتاريخ العلم يؤكد أن العلماء توصلوا إلى معارف جديدة، انطلاقاً مما هو سائد سابقاً؛ لأن تاريخ العلم حلقات متصلة، والعالم لا يمكنه أن ينطلق من العدم؛ لذا فالحقيقة صادقة في ذاتها متغيرة بالنسبة إلينا.

تجاوزاً للانتقادات الموجهة لكلا الاتجاهين سواء الذي يعتبر الحقيقة مطلقة أو الذي يعتبرها عكس ذلك يمكننا التوفيق بين الرأيين بالقول إن الحقيقة تكون مطلقة ونسبية في آن واحد، مطلقة لأن المعرفة الإنسانية لا تحدها حدود، ونسبية من حيث أن هذه المعرفة تتوقف دائماً على هذا الكائن الإنساني المتعدد الأبعاد.

ختاماً ومما سبق نستنتج أن مشكلة الحقيقة مرتبطة بالإنسان وفضوله لاكتشاف المجهول، ولا يتبدّى لنا من الحقيقة إلا ما يدفعنا إلى البحث عنها، وأنه مهما تعددت المواقف المؤيدة للنسبية، فإن الإنسان يطمح دائماً إلى بلوغ الحقيقة الأولى مهما كان مفهوم الثبات الذي يصفها به.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد