ولسوف يتجلى بيننا كما كان فتى أسمر حبّوباً، يملأ الدنيا بهجة وألواناً، ويغمد ابتسامته الحلوة في قلوبنا.
حامد العويضي الخطاط والصحفي والكاتب، البرقة التي عبرت سماء ملبدة بالأحلام والإحباط، منذ ثمانينيات مبارك إلى ما قبل طوفان 2011 بقليل. الفتى المولع بالبهجة والموسيقى القديمة والحكايات، وسيد الخط العربي.
سوف يتحول ركنه بجريدة "الأهالي"، 23 شارع عبد الخالق ثروت، إلى معمل لمانشيتات لن تبلى بتعاقب الليل والنهار، في سنوات الجمر والأحلام.
"الأهالي" التي نذهب من بيت الطلبة إلى ميدان الجيزة مساء الثلاثاء مشياً لنشتريها، ولا نصبر حتى صباح الأربعاء. خلية المهنة التي أرّقت الدولة وحزبها "الوطني" المزيف، وأجهزتها التي كانت تشيخ عياناً بياناً.
سيكتب اللافتات الانتخابية لحزب التجمع مجاناً، فقد كانت الثمانينيات الواعدة تخاتلنا، وتعشّمنا بإصلاح ما أفسده السادات ومبارك، وإعادة الكرامة للفقراء. الفقراء الذين يعيشون مغتربين؛ يموتون محتسبين لدينا العزاء.
سينطفئ بعض اللهيب المقدس، وتستمر المقاومة، وبالنكتة الحرّاقة سوف يعالج أثر جراح لا تظهر في صورة الأشعّة.
الجراح القاتلة عصية على الاكتشاف، هكذا يؤكد علم الإنسانية.
يضحك قبل أن يحكي قصة حقيقية: طلبوا من طباخ الملك فاروق بعد خلعه أن يدرب عشرين طاهياً للضباط الأحرار، قال لهم: دول ممكن أعلمهم يطبخوا، لكن دول مين يعلمهم يأكلوا؟
في المقاعد المخملية بمسرح الجمهورية العتيقة سوف نجلس، نحتفل بمجهولي فرقة الموسيقى العربية. كان يعرف بعضهم ويحكي عنهم. وستصدح القاعة بنواقيس محمد عثمان وسيد درويش وتلاميذهم في فجر القرن العشرين.
بعدها سنحتفل بالأوبرا الجديدة، ونحجز فيها مقاعد ثابتة أمام فرقتنا المفضلة. وفي طريق العودة إلى المعادي قد نستمع صامتيْن إلى خلاصة الخلاصة: إن كنت أسامح وأنسى الأسية. عجيبة العجائب من محمد القصبجي ومن أم كلثوم.
يرتقي في سنواته الأخيرة إلى ساحات فنية غير مسبوقة. يصنع الورق بيديه، ويخلط الأحبار، ويتعلم الزخرفة بألوان الماء، ويطرز لوحات من آي الذكر الحكيم، وفصوص الشعر الخالد، والحكمة المأثورة.
يسامر مارد الفن في غرفته العالية بمبنى صحيفة الأهرام، على وقع الشيخ مصطفى إسماعيل، وأهازيج الصعيد النادرة، وليالي صالح عبد الحي وأسمهان وعلي الحجار، الذي كان صديقاً مقرباً.
يكتب حامد الخط العربي عاشقاً وعالماً موسوعياً بفنونه وتاريخه، يضع تصميمات عصرية للحروف العربية، فيما يخرج أجمل ما في الكوفي والفارسي والديواني. خط الثلث هو سيد الخطوط في رأيه، "وبه نعرف الخطاط الثقيل من التجاري والهاوي".
ولسوف ينكشف صخب الأحلام الأولى عن أرض جرداء جرفتها سلطة مبارك الخائنة في التسعينيات، فيعوذ بالخط والموسيقى من هذا الخراب.
وقد نمضي إلى مطعم هادئ لنقول: كبرنا، وذهب العمر في شوارعها سُدى.
ولسوف يحكي كثيراً عن الرسام حجازي أستاذ جيلنا في الفن والسياسة. وعندما يقرر حجازي أن يتقاعد طوعاً بعد أكثر من 50 عاماً من العمل بالقاهرة، سيدعو حامد لمنزله ويهديه بعضاً من مكتبته الفريدة. يسأله عن سبب تقاعده فيقول: مافيش، كان عندي شوية رسومات هنا في القاهرة، خلصتها وراجع بيتنا في طنطا".
حامد العويضي أيضاً لديه "رسومات" في القاهرة يبدعها ويمضي قبل الأوان وقبل الطوفان، وهي معروضة الآن في بيت السناري بالحسين.
وهناك وسط حروفه العجيبة وألوانه النادرة سوف يتجلى كما كان فتى أسمر، يغمد ابتسامته في قلوبنا، فلا نظمأ بعدها أبداً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.